في هذا العالم ليس هو خلقا لجوهرٍ قائم بنفسه، بل هو إحداثُ أعراضٍ يُحَوِّلُ بها الجواهرَ المنفردةَ من حال إلى حال.
وهذا مخالف للشرع والعقل - كما قد بسط في موضعه - فإن هؤلاء يقولون: إنا لم نشهد خَلْقَ عينٍ من الأعيان، بل الرب أبدع الجواهر المنفردةَ ثم الخلقَ بعد ذلك، إنما هو إحداث أعراض قائمة بها.
وطائفة أخرى أبعد عن الشرع والعقل من هؤلاء: يتأولون خلق السماوات والأرض بمعنى التولد والتعليل والإيجاب بالذات، ويقولون: إن الفلك قديم أزلي معلول للرب، وأنه يوجب بذاته، لم يزل ولا يزال، وقولهم بالإيجاب هو معنى القول بالتولد، فإنما حصل عن غيره بغير اختيار منه، فقد تولد عنه، لا سيما إن كان حيا.
وهؤلاء يقولون بقدم عين الفلك، وأنه لم يزل ولا يزال، فهؤلاء إذا قيل: إن المسلمين أجمعوا على نقيض قولهم أو على كفر من قال بقولهم كان متوجها، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول أنه أخبر بخلق السماوات والأرض بعد أن لم تكن مخلوقة، بخلاف من ادعى أن الصانع لم يزل معطَّلا، والفعل والكلام عليه ممتنعا بغير سبب حدث أوجب انتقاله من الامتناع إلى الإمكان، وأوجب أن يصير الرب قادرا على الفعل، أو الفعل والكلام، بعد أن لم يكن قادرا على ذلك.
فهذه الدعوى وأمثالها عند جمهور العقلاء معلومة الفساد بالعقل، مع فسادها في الشرع.
ومعلوم عند من له معرفة بالكتاب والسنة والإجماع أن الشرع لم يرد بها ولا بما يدل عليها قط، ولكن ظن من ظن من أهل الكلام أن هذا دين أهل الملل، واستدلوا على ذلك بالكلام الذي أنكره السلف والأئمة عليهم، من أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكان الذي أنكره السلف والأئمة عليهم الكلام الباطل، الذي خالفوا فيه الشرع والعقل.
وقد بُسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وذِكرِ منشئِ غلط الطائفتين، حيث لم يفرقوا بين النوع والعين، وذِكرِ قولِ السلف والأئمة: أن الله لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه لا نهاية لكلمات الله، وأن وجود ما لا نهاية له من