فقد أوجب هذا الشاعر في البيت الأول لنفسه الحلم والإعراض عن الجهال، ونفى ذلك بعينه في البيت الثاني بتعديه في معاقبة الجاهل إلى أقصى مراتب العقوبات وهو القتل.
ولأبي نواس أيضاً شيء شبه هذا وهو قوله:
ولي عهدٍ مالهُ قرينُ ... ولا له شبهٌ ولا خدينُ
استغفرُ اللهَ، بلَى هارونُ ... يا خيرَ من كانَ ومن يكونُ
إلا النبيُّ المصطفَى الميمونُ ... ذلت بك الدُّنيا وعزَّ الدينُ
فصير هارون شبيهاً بولي العهد، ثم قال: إنه خير الناس، ولم يستثن بهارون، فكأنه إما خير منه، وليس خيراً منه، لأنه شبيهه أو كشبيهه، وليس بشبيهه، لأنه خير منه، وهذا جمع بين النفي والإثبات.
ومما يجري هذا المجرى، وقد أنكره الناس وعابوه، قول زهير ابن أبي سلمى:
حيَّ الديارَ الَّتي لم يعفُهَا القدمُ ... بلَى وغيرهَا الأرواحُ والديمُ
ومن عيوب المعاني: إيقاع الممتنع فيها في حال ما يحوز وقوعه ويمكن كونه، والفرق بين الممتنع والمتناقض - الذي تقدم الكلام فيه - أن المتناقض لا يكون، ولا يمكن تصوره في الوهم، والممتنع لا يكون، ويجوز أن يتصور في الوهم.
ومما جاء في الشعر - قد وضع الممتنع فيه فيما يجوز وقوعه - قول أبي نواس:
يا أمينَ الله عِشْ أبَداً ... دُمْ عَلَى الأيامِ والزمنِ
فليس يخلو هذا الشاعر من أن يكون تفاءل لهذا الممدوح بقوله: عش أبداً، أو دعا له، وكلا الأمرين، مما لا يجوز، مستقبح.
ولعل معترضاً أن يعترض على هذا القول منا في هذا الموضع فيقول: إنه مناقضة لا استجزناه ورأيناه صواباً في صدر هذا الكتاب من الغلو، ويجعل قول أبي نواس هذا غلواً، يلزمنا تجويزه، كما أصلنا تجويز الغلو وتجويده.
ونحن نقول: إن هذا وما أشبهه ليس غلواً ولا إفراطاً، بل خروجاً عن حد الغلو الذي يجوز أن يقع إلى حد الممتنع الذي لا يجوز أن يقع، لأن الغلو إنما هو تجاوز في نعت ما