فلو لم تكن إرادته أنه رزين من حيث ليس خفيفاً، وخفيف من حيث ليس رزيناً، لم يجز، ومثل ما قال الشنفرى:
فدقتْ وجلتْ واسبكرتْ وأكملتْ ... فلو جنَّ إنسانٌ من الحسنِ جنتِ
فإنه إنما أراد دقت من جهة وجلت من أخرى، فأما لو كان أراد أنها دقت من حيث جلت، لم يكن جائزاً.
وقد جاء في الشعر من الاستحالة والتناقض ما لا عذر فيه، وما جمع فيما قيل فيه بين المتقابلات من جهة واحدة، ومنه ما التناقض فيه ظاهر، يعلم في أول ما يلقى السمع، ومنه ما يحتاج إلى تنبيه على موضع التناقض فيه.
ومما جاء في ذلك على جهة التضاد، قول أبي نواس يصف الخمر:
كأنَّ بقايا ما عفَا من حبابِها ... تفاريقُ شيبٍ في سوادِ عذارِ
فشبه حباب الكأس بالشيب، وذلك قول جائز، لأن الحباب يشبه الشيب في البياض وحده، لا في شيء آخر غيره، ثم قال:
تردتْ به ثم انفرَى عن أدِيمها ... تفرىَ ليلٍ عن بياض نهارٍ
فالحباب الذي جعله في هذا البيت الثاني كالليل، هو الذي كان في البيت الأول أبيض كالشيب، والخمر التي كانت في البيت الأول كسواد العذار هي التي صارت في البيت الثاني كبياض النهار، وليس في هذا التناقض منصرف إلى جهة من جهات العذر، لأن الأبيض والأسود طرفان متضادان، وكل واحد منهما في غاية البعد عن الآخر، فليس يجوز أن يكون شيء واحد منهما في غاية البعد عن الآخر، فليس يجوز أن يكون شيء واحد يوصف بأنه أبيض وأسود، إلا كما يوصف الأدكن في الألوان بالقياس إلى واحد من الطرفين اللذين هو واسطة بينهما، فيقال: إنه عند الأبيض أسود، وعند الأسود أبيض، وليس فيما قاله أبو نواس حال توجب انصراف ما قاله إلى هذه الجهة. ولعل قوماً أن يحتجوا لأبي نواس بأن يقولوا: إن قوله:
تفرى ليل عن بياض نهار
لم يرد به أسود ولا أبيض، لكن الذي أراده إنما هو ذات التفري وانحسار الشيء عن الشيء، أسود كان أو أبيض أو غير ذلك من الألوان.
فنقول: من يحتج بهذه الحجة تبطل من جهات: إحداها: أن الرجل قد صرح بأنه لم يرد غير اللون فقط، بقوله: عن بياض نهار، والثانية: تشبيهه الحباب بالشيب، لأن الحباب لا يشبه الشيب من جهة من الجهات غير البياض، والثالثة: أن النهار والليل ليس هما غير الضياء والظلمة، فيظن بالجاعل