الصناعة ما يبلغه إياه، سمي حاذقاً تام الحذق، وإن قصر عن ذلك نزل له اسم بحسب الموضع الذي يبلغه في القرب من تلك الغاية والبعد عنها، كان الشعر أيضاً، إذ كان جارياً على سبيل سائر الصناعات، مقصوداً فيه وفي ما يحاك ويؤلف منه إلى غاية التجويد، فكان العاجز عن هذه الغاية من الشعراء إنما هو من ضعفت صناعته.
فإذ قد صح أن هذا على ما قلناه، فلنذكر الصفات التي إذا اجتمعت في الشعر كان في غاية الجودة، وهو الغرض الذي تنتحيه الشعراء بحسب ما قدمناه من شريطة الصناعات، والغاية الأخرى المضادة لهذه الغاية، التي هي نهاية الرداءة.
وأذكر أسباب الجودة وأحوالها وأعداد أجناسها، ليكون ما يوجد من الشعر قد اجتمعت فيه الأوصاف المحمودة كلها، وخلا من الخلال المذمومة بأسرها، يسمى شعراً في غاية الجودة، وما يوجد بضد هذا الحال يسمى شعراً في غاية الرداءة، وما يجتمع فيه من الحالين أسباب ينزل له اسم بحسب قربه من الجيد أو من الردئ، أو وقوفه في الوسط الذي يقال لما كان فيه: صالح أو متوسط، أو لا جيد ولا رديء، فإن سبيل الأوساط في كل ما له ذلك أن تحد بسلب الطرفين، كما يقال مثلاُ في الفاتر - الذي هو وسط بين الحار والبارد - إنه لا حار ولا بارد، والمز - الذي هو وسط بين الحلو والحامض - إنه لا حلو ولا حامض.
ومما يجب توطيده وتقديمه، قبل الذي أريد أن أتكلم فيه، أن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها، فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور منها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة.
وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان، من الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والعضيهة، وغير ذلك من المعاني الحميدة والذميمة: أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة.
ومما يجب تقديمه أيضاً أن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئاً وصفاً حسناً، ثم يذمه بعد ذلك ذماً حسناً أيضاً، غير منكر عليه ولا معيب من فعله، إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك عندي دليل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها.
وإنما قدمت هذين المعنيين،