عاش حيناً في حانوت ينسج حللاً ويوشيها، ويطرز متون القراطيس بحبر أقلامه ويحشيها.
ولديه تنشد ضوالُّ اللغة والإعراب، وتقف الآراء حيرى في محاسنه بين الإعجاب والإغراب.
فشدت نحوه المطايا، وأشرقت فضائله كبيض العطايا.
وشفت ظروفه حروف مباينه، فنمَّت عن سلافة لطافة معاينه.
كما نمَّ الزُّجاج على الصَّهبا، والنسيم عن شذا الربى. ومع أنه شيخ الوقار، له كلماتٌ يعصر منها العقار. فمن جاراه في طرف الرقَّة، بعدت عليه الشُّقَّة.
وكانت لديه مقاصد، يلوح منها للمنى مراصد. أيام عيشه بالمرة مؤتلف، والحظُّ غادٍ إليه ومختلف. حتى أغري الدهر بشمله ففرقَّه، وأضري ببرد ائتلافه فمزَّقه.
بسبب غرضٍ نقم عليه، وكاد يسوق الحتف إليه. فخرج مع البازي إلى بلاد العجم، وثمَّت طلع كوكب إقباله ونجم.
ودعاه الشاه عباس للرئاسة فأجاب، واراه من كمال التقرب الأفق المنجاب.
فأقام والأهواء إليه منساقة، إلى أن دعاه داعي الحتف إلى اللَّحد فأجابه وساقه.
وقد أوردت له من شعره الذي يباهي الدِّيباج الخسرواني، ما يستعير اللُّطف منه الراح الأرجواني. فمن ذلك قوله معمياً باسم مراد:
إذا خيِّرتُ بين الثَّغ ... رِ والصَّهباء من حبِّي
أقدِّم ثغر من أهوى ... على ما دار بالقلبِ
وقوله:
صبَّر الرحمن صبًّا ... ذاق هجران حبيبهْ
وحماهُ برد وصلٍ ... منه مطفٍ للهيبهْ
فلعمري ليس يدري ال ... هجرَ إلا من رمي بهْ
وقوله:
أنا والله لا أبالي وإن ذمَّ ... وإن أكثر الجهول السِّبابا
أنا كالشمس في الأنام مقامي ... معتلٍ لا ترى عليه حجابا
أدبي مفخري وفخري علومي ... لا أراه النِّجار والأسبابا
وقوله:
ترومُ وُلاة الجوْر نصراً على العدى ... وهيهات يلقى النَّصر غير مصيبِ
وكيف يروم النَّصر من كان خلفه ... سهام دعاءٍ عن قسيِّ قلوبِ
هذا معنًى تداولته الشعراء، والحسن منه قول ابن نباتة المصري:
ألا رُبِّ ذي ظلمٍ كمنْتُ لحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
وما كان لي إلا سهام تركُّعٍ ... وداعيةٌ لا تُتَّقى بدروعِ
وهيهات أن ينجو الظَّلوم وخلفه ... سهام دعاءٍ من قسيِّ ركوعِ
مُريَّشةٌ بالهدب من جفن ساهرٍ ... مُنَصَّلةٌ أطرافها بدموعِ
ومن المنشآت المبتدعة: المحارب إذا شيِّع بالدعاء له فقد أنجد بمدد بل أمداد، وحفظ ظهره بجندٍ بل أجناد. وإذا شيِّع بالدعاء عليه، فقد خرج خلفه كمينٌ لا يقوى له فيلقاه، ولا يراه فيتوقَّاه. ولن يغلب عسكرٌ واحدٌ عسكرين من الدعاء والأعداء، ولن يسلم من أعوز ظهره مجنُّ الضُّعفاء، ولن ينصر في الأرض من حورب من السماء.
ومن نتفه قوله في إفرنجي:
بروحيَ ظبيٌ فاترُ الطَّرف أحورٌ ... رنا فرمى قلبي بسهم من الغنجِ
أبت مهجتي الإشراكَ فيه وقد غدا ... يرى شرعة التَّثليثِ واضحة النَّهجِ
فيا قوم هل فيكم معينٌ على الأسى ... وهل من طريقٍ من قطيعته تنجي
فقد سامني في الحبِّ مالا أطيقه ... وأوقعني من زاخرِ الصَّدِّ في لجِّي
وبرَّح بي حتى لقد رقَّ عذَّلي ... وما حال من أضحى بقبضةِ إفرنجي
وكتب إلى صديقٍ له تمرض بالحمَّى:
أنا مذ قيل لي بأنَّك تشكو ... ضُرَّ حمَّاكَ زاد بي التَّبريحُ
أنت روحِي وكيف يُلفى سليماً ... جسدٌ لم تصحَّ فيه الرُّوحُ
وله:
إن أصبح الوغدُ يعلو فوق منزِلتي ... من غير ما سببٍ يقضي بترجيحِ
فالنَّقع يعلو على بيضِ الكماة كما ... علا الدُّخانُ علي النِّيران مع ريحِ
أخذه من قول الآخر:
إن يقعدُ فوقي لغيرِ نزاهةٍ ... وعلوِّ مرتبةٍ وعزِّ مكانِ
فالنَّارُ يعلوها الدُّخانُ وربَّما ... يعلو الغبارُ عمائمَ الفرسانُ
وله: