الباب الأول في ذكر محاسن شعراء دمشق

فلما ألقيت بدمشق عصا الترحال، وحليت في ساحتها عقدة الرحال. عمدت إلى مجموعي الذي انتحيت، وطلقي الذي إليه تنحيت. فصممت إلى الأصل ما تلقيته، وأثبت ما اخترته من الأشار وانتقيته. وحبب إلي الانعزال عن الناس، فلم أخالطهم في وحشة ولا إيناس.

إلى أن ورد إلى دمشق الأستاذ زين العابدين البكري، وللحياة عطفة بشة، وللجذل نعمة هشة. للهضب رجاح احتبائه، وللنور المقدس جوهر حوبائه. فاستخرجني من مطمورة المنزل، وصيرني عن الهم في معزل. وأطلق أملي وكان معقولاً، وأعاد خاطري بعد الصدأ مصقولا.

ففتقت في أوقاته مبسماً، واغتنمت للعمر الهني موسما. ورأيت بشراً يطرد وصيلا، وإقبالاً يتعاقب بكرة وأصيلا.

وكان أشار إلي بالرحلة معه حين أن هم الرجعة، فتخلفت لعائق خلفني لولوعي، وخلى بين الغرام وضلوعي. ذاك ولوع للمجد لا لنجد، وغرام للعليا لا للأفيا. فلولا النفائس لم يحفل بالأدراج، ولولا الكواكبُ لم تحفظ الأبراج. ولا اتخذ الغمد لولا الحسام، ولولا الأرواح لم تؤلف الأجسام. فبقيت موزع الفكر، مقسم الأناة بين التصور والذكر. على أني وإن تباعدت المدائن، فأنا بولائه وصدق مودته دائن. وإن لم تنظمنا الركاب المسئدة، فقد انتظمت منا على المودة الأفئدة. وهذه علاقة تستجد كلما تتلى، لأنها ليست لغرض يبلى. بل علقته لأخلاقه لا لأعلاقه، وتعلقت بآدابه لا بأهدابه. وصرت أود لو طرت إليه كل مطار، وكنت معه على آمالٍ وأوطار. فبينما أنا أنتظر لقربه طريقاً، وأطلب للوصول إليه فريقاً رفيقاً. إذ قدم الشام المولى الهمام الأعظم عبد الباقي المعروف بعارف، قاضياً بمصر، وهو من إذا كنت أذكره أميل كغصن البانة الناعم النضر، وإذا ما رحت أشكره، أروح كأني قد خلقت من الشكر.

وأجد نسيمه إذا تنسمته، كالمسك يفتق بالندى ويعطر، وأجتلي منه كلما توسمته خلقاً كزاهي الروض بل هو أعطر. من ابتسمت به الأيام وكانت عابسة، وأورقت غصون المنى بعد ما كانت يابسة. وأنار به وجه المان، وأخذ الأنام من الدهر توقيع الأمان. فإنه أمده الله بتوفيقه، وسدد سهام رأيه بتفويقه. نفرد بجمع الكمالات فلا يشرك، وتوحد في استيعاب المعلومات فلا يدرك. فمطلب الثناء فيه هين، ومركب الإطراء فيه لين. وإن من النعمة على المثني عيله، أنه لا يحذر أن تنسب نقيصة الكذب إليه. ولا ينتهي إلى محل في ثنائه، إلا وجد له عوناً في أثنائه. ومن سعادة جده، وبلوغه في الحظ نهاية حده، أنه إذا دعا له لم يجد عنه متخلفاً، وبل يرى كل راء وسامع إليه متحلفاً.

فلما ترويت من ماء بشره، ونعمت ولله الحمد بتقبيل عشره. أنهضني القيام بذمته، إلى أن أكون في خدمته. فصحبته مصاحباً به المنى والأمل، وخدمته فكساني شرف الشمس في برج الحمل. ولما حللنا القاهرة أنزلني في حماه، وأحلني حيث تدفق سيب رحماه.

وتوافق مع الأستاذ - مد الله في جاهه، وجمل النوع الإنساني بحياة أشباهه - على ترويج حظي، وفتحا بنظرهما إلى الأمنية لحظي. وخصاني من برهما الممتدة أطنابه، بما يعجز عنه إسهاب القول وإطنابه. ففتقا لساني بأمداحهما، ووزناني فرجحت سائر مداحهما.

وأنا الآن في ظل رعايتهما مصاحب الراحة والدعة وأينما حللت نزلت على الرحب والسعة. فلهذا صفا فكري في هذه الأيام من الشوائب، وأمنت بعون الله وصمة النوائب. وشرعت بأمرهما في نسخ ما سودته أولاً وثانياً، ولم أكن لعنان عزمي ثانياً. وأنا سائل من واهب الآمال، أن يبيض وجهي يوم عرض الأعمال. ومن هنا أشرع فيما عمدت إليه، فأقول مفوضاً أمري إلى الله ومتكلاً عليه:

الجزء الأول

الباب الأول

في ذكر محاسن شعراء دمشق

الشام ونواحيها لا زالت طيبة العرار والبشام

وهي كما علمت من عهد أن دخلتها العرب، موطن كل أدب، لك فيه الأرب. وقد أنجبت في كل وقتٍ وأوان، بقادةٍ كل كلمةٍ منهم بديوان. حتى أرانا الله بقاياهم، وأطلعنا على خبايا زواياهم.

فهم أئمة الفضل المتوجون بتيجان اللطافة والملاحة، وهم مطمح أنظار الأمل، فما غيرهم قيد العيون اللماحة.

بهم تفضل أهل البلاد، وتصعد إلى أفق الثريا، وبهم يمس بستان الفكر بعد ظمائه ريًّا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015