كم من مناهلَ للفُراتِ ورَدْنَها ... وصَدَرْنَ وهْي لِعَوْدِهنَّ ظِماءُ

لا تعجَبنْ إن لم يَفِينَ بمَوْعدٍ ... إن الغوانِي ما لهُنَّ وَفاءُ

سُكانُ تلك الأرضِ كلُّهم لهم ... عندي هوىً وصداقةٌ وإخاءُ

إن يسْلِبوا عنِّي السرورَ ببَيْنِهمْ ... فلِمُهْجَتِي بحديثِهم سَرَّاءُ

فهمُ مَناطُ مَساءَتي ومسرَّتِي ... وهمُ لقلبِي شِدَّةٌ ورخاءُ

أكبادُنا نارُ الغَضا من بعدهمْ ... تُذْكِي الأسَى وجفونُنا أنْواءُ

الظَّاعِنون القاطنونَ قلوبَنا ... هم واصِلين وقاطِعين سواءُ

وإذا المَحبَّةُ في الصدورِ تمكَّنتْ ... فقد اسْتوَى الإبْعادُ والإدْناءُ

ألقتْنِيَ الأيامُ من أرضٍ إلى ... أرضٍ لها أرضُ العراقِ سَماءُ

شتَّان ما بيْني وبين مَزَارِهمْ ... هيهات أين الهندُ والزَّوْراءُ

كيف احْتيالِي في الوُصولِ إليهمُ ... إن الوصولَ إليهم لَرَجاءُ

لا تركَبنْ ظهرَ الرجاءِ مَطِيَّةً ... إن الرجاءَ مَطِيَّةٌ عَوْجاءُ

وكواذِبُ الآمالِ لا تُهدَى بها ... دَعْها فتلك هدايةٌ عَمْياءُ

يا ساكنِي دارِ السلامِ عليكمُ ... مني السلامُ ورحمةٌ ودعاءُ

أين الغَرِيُّ وأهلُه وضجِيعُه ... رُوحي له ولِمَا حَواه فِداءُ

ومن مديحها قوله:

الأحمدُ المحمودُ كلُّ فِعالِه ... ما شاءَه وقضى به فقَضاءُ

فله يَدٌ وله أناملُ فِعْلُها الْ ... إحسانُ والإنعامُ والإعطاءُ

لا كالبحارِ تظَلُّ تجمع ماءَها ... بل كالجبالِ يسيلُ عنها الماءُ

مالَ الخلائقُ حيث مالَ كأنه ... شمسُ السَّما وكأنهم حِرْباءُ

يعني أنهم يتلونون معه، ولا يستقرون من الطيش على حال، كما تتلون الحرباء ألواناً مع الشمس.

والحرباء دويبة تسمى أم حبين، وتكنى أبا قرة.

ويقال حرباء الهجري لما ذكر، وحرباء تنضب، كما يقال ذئب غضا، وهو شجر يتخذ منه السهام، جمع تنضبة.

وفي شفاء الغليل للشهاب: الحرباء، جنس من العظاء، معرب حوربا، أي حافظ الشمس؛ لأنه يراقبها ويدور معها.

وفي المثل: أحزم من حربا، لأنه مع تقلبه في الشمس لا يرسل يده من غصن حتى يمسك آخر.

وإياه عنى التميمي في قوله:

لنا صديقٌ له في الغانياتِ هَوىً ... وأيْرُه لا يزال الدهرَ طَرَّاقَا

كأنما هو حِرْباءُ الهَجيرِ ضُحىً ... لا يُرسِل الساقَ إلا مُمْسِكاً ساقَا

وهو تضمين، من قول بعض شعراء الجاهلية:

أنَّى أُتِيحَ له حِرْباءُ تنْضُبَةٍ ... لا يُرسِل الساقَ إلاَّ مُمْسِكاً ساقَا

وضربه بعض العرب مثلاً للألد الخصام، الذي كلما انقضت له حجة أقام أخرى.

وضربه ابن الرومي مثلاً للقبيح.

ويضرب به المثل في كثير التقلب.

عادتْ عصافيراً بُزاةُ زمانِه ... وتصاغرتْ لجَلالهِ الكُبراءُ

منها:

حسْبي سُمُوّاً إن تكن بي عارفاً ... ما ضَرَّني أن يُنكِر الضعفاءُ

لا غَرْوَ إن لم تُفْصِح الأيامُ بي ... الدهرُ ابنُ عَطا وإنِّي الرَّاءُ

وبذا جرَى طبعُ الزمانِ وأهلِه ... دُفِن الكمالُ وأهله أحياءُ

هب لي قُصورِي واغْفِرَنْ ذنبي فما ... أنا منه في هذا الهُذاء بُراءُ

ما الجُود مخصوصاً ببَذْلِ المُقتنَى ... بل منه عندي العَفْوُ والإغْضاءُ

هذا مديح من خُلوصِ عقيدةٍ ... معلومةٍ وتحيَّةٌ وثَناءُ

قوله: الدهر ابن عطا وإني الراء يريد واصل بن عطاء المعتزلي، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، وكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن لذلك؛ لاقتداره على الكلام، وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق الضبي:

عليمٌ بإبْدالِ الحروفِ وقامِعٌ ... لكلِّ خطيبٍ يغلبُ الحقَّ باطلُهْ

وقال فيه أيضاً:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015