وممّن روى عنه ابنه أبو القاسم أحمد. وكان لما رجع إلى الأندلس فشا علمه، وتهيأت الدنيا له، وعظم جاهه، وأجزلت له الصّلات، فمات عن مال وافر، وترسل للملوك، وولي القضاء بعدة مواضع، رحمه الله تعالى.
وأمّا ما تقدّم عن القاضي أبي الوليد الباجي من إجراء حديث الكتابة على ظاهره فهو قول بعض، والصواب خلافه، قال القاضي أبو الفضل عياض: حدّثنا محمد بن علي المعروف باب الصيقل الشاطبي من لفظه، قال: حدثني أبو الحسن ابن مفوّز قال: كان أبو محمد ابن أحمد بن الحاج الهوّاري من أهل جزيرة شقر ممّن لازم الباجي وتفقّه عنده، وكان يميل إلى مذهب الباجي في جواز مباشرة النبي صلى الله عليه وسلّم الكتابة بيده في حديث المقاضاة في الحديبية على ما جاء في ظاهر بعض رواياته، ويعجب به، وكنت أنكر ذلك عليه، فمّا كان بعد برهة أتاني زائراً على عادته، وأعلمني أن رجلاً من إخوانه كان يرى في النوم أنّه بالمدينة، وأنّه يدخل المسجد، فيرى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامه، فيجد له قشعريرة وهيبة عظيمة، ثم يراه ينشقّ ويميد ولا يستقر، فيعتريه منه فزع عظيم، وسألني عن عبارة رؤياه، فقلت: أخشى على صاحب هذا المنام أن يصف رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغير صفته، أو ينحله ما ليس له بأصل، أو لعلّه يفتري عليه، فسألني: من أين قلت هذا قلت له: من قول الله تعالى " تكاد السّموات يتفطّرن منه إلى قوله تعالى: ولداً " فقال لي: لله درّك يا سيّدي، وأقبل يقبّل رأسي وبين عينيّ، ويبكي مرّة ويضحك أخرى، ثم قال لي: أنا صاحب الرويا، واسمع تمامها يشهد لك بصحة تأويلك، قال: إنّه لمّا رأيتني في ذلك الفزع العظيم كنت أقول: والله ما هذا إلاّ أنّني أقول وأعتقد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب، فكنت أبكي وأقول: أنا تائب يا رسول الله، وأكرّر ذلك مراراً، فارى القبر قد عاد إلى هيأته أوّلاً وسكن، فاستيقظت، ثم قال لي: وأنا أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كتب قطّ حرفاً