فإذا نهانا الله تعالى عن بعض الانتفاعات، علمنا أنه تعالى، إنما منعنا منها؛ لعلمه باستلزامها للمضار: إما في الحال، أو في المال؛ ولكن ذلك على خلاف الأصل؛ فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة.
وهذا النوع من الكلام هو اللائق بطباع الفقهاء، والقضاة، وإن كان تحقيق القول فيه لا يتم إلا مع القول بالاعتزال.
أما الأصل الثاني؛ وهو أن الأصل في المضار الحرمة: فهذا يستدعى بحثين: أحدهما: البحث عن ماهية الضرر، والثاني: إقامة الدليل على حرمته.
أما الأول: فقد قالوا: الضرر ألم القلب؛ لأن الضرب يسمى ضررًا، وتفويت منفعة الإنسان يسمى إضرارًا، والشتم والاستخفاف يسمى ضررًا، ولابد من جعل اللفظ اسمًا لمعنى مشترك بين هذه الصور؛ دفعًا للاشتراك، وألم القلب معنى مشترك؛ فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه.
فإن قيل: (أتعنى بألم القلب الغم والحزن، أم شيئًا آخر؟:
الأول: باطل؛ لأن من خرق ثوب إنسان، أو خرب داره، وكان المالك غافلاً عن هذه الحالة، يقال: أضر به، مع أنه لم يوجد الغم والحزن، وإن عنيت به شيئًا آخر، فبينه، نزلنا عن الاستفسار؛ فلم قلت: (الضرر ألم القلب؟):
قوله: (لابد من معنى مشترك في مواضع الاستعمال):
قلنا: هذا مسلم؛ لكن لم قبلت: إنه لا مشترك إلا ألم القلب؛ بل هاهنا مشترك آخر؛ وهو تفويت النفع؛ فما الدليل على أن ما ذكرتموه أولى؟ ثم الذي يدل على أن ما ذكرناه أولى: أن النفع مقابل الضرر، والنفع تحصيل المنفعة؛ فوجب أن يكون الضرر إزالة المنفعة.