فإن قلت: أليس أن الأمة، إذا اختلفت على قولين، فقد جوزت للعامي أن يأخذ بأيهما شاء، ثم إذا اتفقت بعد ذلك على أحدهما، فقد منعت العامي من الأخذ بذلك القول الثاني، فهاهنا: الإجماع الثاني ناسخ لحكم الإجماع الأول.
قلت: الأمة إنما جوزت للعامي الأخذ بأي القولين شاء بشرط ألا يحصل الإجماع على أحد القولين، فكان الإجماع الأول مشروطًا بهذا الشرط، فإذا وجد الإجماع، فقد زال شرط الإجماع الأول، فانتفى الإجماع الأول؛ لانتفاء شرطه، لا لأن الثاني نسخه.
وأما بالقياس: فلأن شرط صحة القياس عدم الإجماع، فإذا وجد الإجماع، لم يكن القياس صحيحًا، فلم يجز نسخه به.
وأما كون الإجماع ناسخًا: فقد جوزه عيسى بن أبان.
والحق أنه لا يجوز.
لنا: أن المنسوخ بالإجماع: إما ان يكون نصًا أو إجماعًا أو قياسًا:
والأول: يقتضي وقوع الإجماع على خلاف النص، وخلاف النص خطأ، والإجماع لا يكون خطأ.
والثاني أيضًا: باطل؛ لأن الإجماع المتأخر: إما أن يقتضي أن الإجماع الأول حين وقع، وقع خطأ، أو يقتضي أنه كان صوابًا، ولكن إلى هذه الغاية.
والأول باطل؛ لأن الإجماع لا يكون خطأ، ولو جاز ذلك، لما كان المنسوخ به أولى من الناسخ، وإن كان صوابًا حين وقع، ولكن كان مؤقتًا، فلا يخلو ذلك الإجماع المتقدم المفيد للحكم المؤقت، من أن يكون مطلقًا أو مؤقتًا، فإن كان مطلقًا، استحال أن يفيد الحكم مؤقتًا، وإن كان مؤقتًا إلى غاية، فذلك الإجماع ينتهي عند حصول تلك الغاية بنفسه؛ فلا يكون الإجماع المتأخر رافعًا له.