العلماء والفقهاء، وأصبح الكتابان -ولا سيما الموافقات- من ركائز التراث الأساسية التي يلجأ إليها أساتذة الشريعة وطلابها المتقدمون، تفهمًا في دراساتهم، وعزوًا وتوثيقًا لأفهامهم فيما يكتبون. ولمع نجم الشاطبي منذئذ بالمشرق في هذا الأفق العلمي، ثم أخذ يزداد سطوعًا حتى أصبح يستضاء في بحوث أصول الشريعة ومقاصدها، وتوضح به الحجة، وتقام بما فيه المحجة1.

وتذكرني الكلمات الأخيرة للشيخ الزرقاء، بكلمات أخرى للشاطبي، ومن غريب الأقدار أنها -فيما يظهر- هي آخر ما كتبه رحمه الله، وأعني بذلك الكلمات التي وقف عندها -وتوفي بعدها- من كتابه "الاعتصام" وهي: "إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضًا لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه. وهو الأدلاء على طريقه"2.

وبمقتضى هذه الحقيقة الثابتة في التاريخ البشري عامة، وفي الميدان العلمي خاصة، فقد أصبح الشاطبي حجة من حجج الشريعة وعلمًا من أعلام مقاصدها، ودليلًا من الأدلاء على حكمها وأسرارها. يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، عن كتاب الموافقات: "لقد بنى الشاطبي -حقا- بهذا التأليف هرمًا شامخًا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يشرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قل من اهتدى إليه قبله. فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالة عليه، وظهرت مزية كتابه ظهورًا عجيبًا في قرننا الحاضر والقرن قبله، لما أشكلت على العالم الإسلامي -عند نهضته من كبوته- أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية، فكان كتاب الموافقات للشاطبي هو المفزع، وإليه المرجع3.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015