والأئمة وإن تشابهوا في السجايا من دين وورع وتقوى وذكاء واستعداد عظيم للحفظ والفهم والاستنباط فإنهم تميزوا بأن احتفظ كل واحد منهم بخصيصة تَفَوُّقٍ بها على الآخرين، فالإمام أبي حنيفة أعلى الأئمة جميعًا مقدرة على استنباط علل الأحكام والقياس عليها، واستخراج القواعد الناظمة للفروع. والإمام مالك أعلم الأئمة جميعًا بالسنن العلمية والعُرْفِ الذي كان في عصر التشريع، ومن هنا كان عمل أهل المدينة بمثابة الحديث المتواتر المنقول نَقْلاً عَمَلِيًّا، وكذلك الإمام الشافعي كان أكثر الأئمة قدرة على استنباط الأحكام من النصوص، كيف لا وهو الذي احتج اللغويون بكلامه، وقال فيه الجاحظ: «نظرت في كلام هؤلاء النبغة فلم أر أحسن تأليفًا من المُطَّلَبِيِّ كأن لسانه ينثر الدر». أما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة حفظًا للنصوص سواء كانت أحاديث نبوية أو آثارًا عن الصحابة أو فتاوى للصحابة أو التابعين، ومن هنا جاءت المذاهب الفقهية الأربعة مكملة لبعضها البعض فما أشبهها بمائدة عليها أطايب الطعام من صنوف شتى يتخير الآكل ما لذ وطاب.
أما آفتها الدخيلة عليها فهو التعصب المذهبي الذي يزعم أن الحق محصور في مذهب من هذه المذاهب ليوجب على المسلمين المتذهب به؛ كالذي فعله صاحب كتاب " مغيث الخلق في بيان المذهب الحق " في حصر الحق في المذهب الشافعي، وكالذي فعله صاحب " النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة " فهو أمر لا يتفق مع الدين أولاً ولا مع المذاهب ثانيًا، فلو عرضت هذه العصبيات على الأئمة