إن كنا قد انتهينا إلى جواز الإثبات بالكتابة بناء على القول الغالب عند الفقهاء وتسهيلا على الناس، فإن هذا الجواز لم يجعل من الكتابة دليلا يمنع أو يحد من قوة غيرها من الأدلة كما ذهب بعض القانونيين. فرجال القانون الوضعي قد انتهوا إلى وجوب الإثبات بالكتابة في بعض الحقوق، ولا يجوز الإثبات إلا عن طريقها، ومنعوا الإثبات بشهادة الشهود في هذه الحقوق، مقيدين بذلك طريق الإثبات بالشهادة، وجعلوا حجية الكتابة أقوى من حجية الشهادة. ورجال القانون إن كانوا قَد عذروا أنفسهم في هذا المسلك بدعوى انتشار شهادة الزور مما أدى إلى الفوضى في ساحات العدالة، فإن الفقه الإسلامي لم يكن بحاجة لمثل هذا التصرف وهذا التقييد مادام منهجه تربية الفرد، وغرس روح الأمانة والمراقبة لله عز وجل بحيث تندرج هذه المراقبة على أفعاله كلها فيكون بذلك بعيدا عن تهمة التزوير. ثم إن هذا المحذور الذي أدى تقييد الشهادة عند القانونيين لا يؤمن دخوله في الكتابة والمستندات الخطية، وما كان إنكار المانعين للإثبات بالكتابة إلا لتخوفهم من الغش والتزوير.
بقي لنا الآن أن نرى كيف يكون اعتداد الفقهاء بالمستندات المكتوبة في الإثبات.
فإذا نظرنا إلى كتابات الفقهاء- المتقدمين منهم والمعاصرين- في الأدلة الكتابية نجدهم يقسمونها إلى قسمين رئيسيين: