غير أن مذهب أبي حنيفة بالقضاء بالنكول وحده منتقد من وجوه:-
الأول: إن النكول لا يدل على أن الحق قد ثبت على الناكل، لأنه قد يمتنع عن الحلف تورعا وترفعا حتى وإن كان صادقا في إنكاره للدعوى.
الثاني: قالوا لهم إنكم قد خالفتم قضاء عثمان رضي الله عنه، فإنه لم يقض بالنكول في بعض الوقائع التي رفعت إليه. يقول ابن حزم: "فكيف وقد خالفوا عثمان في هذه القضية نفسها، لأنه لم يجز البيع بالبراءة إلا في عيب لم يعلمه البائع، وهذا خلاف قولكم. ومن العجيب أن يكون حكم عثمان بعضه حجة وبعضه ليس بحجة، هذا على أن مالك بن أنس روى هذا الخبر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سالم بن عبد الله فقال فيه عن أبيه: فأبى أن يحلف وارتجع العبد فدل هذا على أنه اختار أن يرتجع العبد فرده إليه عثمان برضاه"1.
الثالث: إن دعوى الإجماع غير صحيحة، فالإجماع يكون صحيحا بعدم المخالف، لا بعدم العلم بالمخالف، وفرق بين عدم المخالف وعدم العلم به.
أما الأئمة مالك والشافعي وأحمد فيقولون إن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين لا يجب للمدعي بنكوله شيء، وإنما ترد اليمين إلى المدعي، فإذا حلف استحق المدعى به. وتوجيه هذا القول هو أن نكول المدعى عليه أضعف من شاهد المدعي، فالأولى أن يقوى بيمين الطالب، إذ النكول ليس بينة من المدعى عليه ولا إقرارا، فلم يقو على الاستقلال بالحكم، فإذا حلف معه المدعي قوي جانبه2.
قالوا: وإن هذا المعنى يستفاد من الآية الكريمة في شأن الوصية في السفر {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِم ... } الآية (المائدة 107-108) .
ووجه الاستدلال في الآية أنها أفادت رد اليمين إلى الجهة التي شرعت فيها أولا وهي الشاهدان إلى غيرهما، ويؤخذ منه رد اليمين من المدعى عليه إلى غيره3.