عوقب، وهذا هو مقتضى حمل الأمانة التي قبلها الإنسان وأبت السماوات والأرض أن يحملنها، يقول الله تعالى:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (?) .
لقد جعل الله للإنسان هذه الحياة الدنيا دارا أولى يحيا فيها ويعمرها، ليستعين بذلك على عبادة ربه طاعة ومحبة وإخلاصا، ثم ابتلاه بالتكاليف (بالأوامر والنواهي) ليمحصه رحمة منه وفضلا، يقول ابن القيم- رحمه الله تعالى-: «ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي، رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا بها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم (?) » .
قد يظن بعض الناس أن ابتلاء الإنسان بالسراء هو إكرام له لا اختبار طاعة (?) ، ويرى الابتلاء بالضراء هو انتقام هوان أو إهانة، وقد نعى القرآن الكريم على هذا الصنف من الناس ذلك الاعتقاد الباطل ونفاه نفيا حاسما، يقول الله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (?) . وقد صحح القرآن الكريم هذا الفهم السيء في الآيات التي تتلو ذلك مباشرة، وأعاد توجيه الأفهام إلى الممارسات الخاطئة الناتجة عن هذا الفهم السيء لحكمة الابتلاء، وهذه الممارسة الخاطئة هي عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على إطعام المسكين والاستئثار بالمال ولمه وجمعه دون الإنفاق كما أمر الله، فقال تعالى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا* وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (?) .
والأمثال في هذا المجال كثيرة في القرآن مثل ما جاء في سور الشمس والبلد والضحى. والحقيقة هي أن الله- عز وجل- يبتلي العباد تارة بالمضار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فتصير المنحة والمحنة جميعا ابتلاء، فالمنحة تقتضي الشكر والمحنة تقتضي الصبر، يقول الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (?) . إن هذا الإنسان المكرم لم يخلق عبثا ولن يترك سدى، يقول الله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (?) ، ويقول عز من قائل: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (?) ، ومن ثم فهو محاسب على ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (?) ، وقد أخبرنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عن حدود هذه المسئولية ومجالاتها عند ما قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (?) .