وإذا كان الأمر كذلك فإن لسائل أن يسأل: لماذا كثر الغريب في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
لقد كان «غريب الحديث» بمعنى: الألفاظ أو العبارات الغامضة الواردة في متون الأحاديث من أسبق علوم الحديث ظهورا، وكان السابق إلى التأليف فيه هو الإمام: أبو عبيدة معمر بن المثنى (م 216 هـ) ، ثم توالى التأليف فيه إلى يوم الناس هذا، وهنا قد يتبادر سؤال إلى الذهن خلاصته: كيف يكثر الغريب في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ مع أن الغرابة عيب يخل بالفصاحة ومع ذلك فقد ثبت أن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم هو أفصح العرب قاطبة.
إن مناقشة تفصيلية لهذه القضية لا يتسع لها هذا المجال (?) وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الغرابة أمر نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان، كما يختلف باختلاف المتحدّث إليهم، فما يكون غريبا عند قوم قد لا يكون غريبا عند آخرين، وما يكون غريبا في عصر قد يكون هو- لا غيره- أفصح الفصيح في عصر آخر، وإذا طبقنا هذه المعايير على الحديث النبوي الشريف- وقد طبقناها فعلا- على ما أورده أبو عبيد في كتابه «غريب الحديث» لكانت النتيجة «أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يستعمل إلا الواضح المألوف في بيئته، وإلا ما كان مفهوما لمن يتوجّه إليهم بالخطاب، وأن هذا لا ينفي بالطبع أن بعض الألفاظ الحديثية قد قل استعمالها فيما بعد نتيجة لتطور اللغة، كما اتضح أن بعض هذه الألفاظ كانت غامضة المعنى عند غير من يخاطب بها (?) ، وأن ذلك كان هو السبب في إطلاق وصف الغرابة عليها» (?) .
لقد تكفل الإمام الخطابي- رحمه الله تعالى- ببيان السبب الذي من أجله كثر غريب حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: لقد بعث صلّى الله عليه وسلّم مبلغا ومعلما، فهو لا يزال في كل مقام يقومه وموطن يشهده يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ويشرع في حادثة، ويفتي في نازلة، والأسماع إليه مصغية، والقلوب لما يرد عليها من قوله واعية، وقد تختلف عنها عباراته، ويتكرر فيها بيانه، ليكون أوقع للسامعين، وأقرب إلى فهم من كان منهم أقل فقها وأقرب بالإسلام عهدا، وأولو الحفظ والإتقان من فقهاء الصحابة يرعونها (كلها) سمعا، ويستوفونها حفظا، ويؤدونها على اختلاف جهاتها، فيجتمع لذلك في القضية الواحدة عدة ألفاظ، تحتها معنى واحد، وذلك كقوله: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» (?) ، وفي رواية أخرى: «وللعاهر الإثلب» (?) . قال الخطابي: وقد مر بمسامعي ولم يثبت عندي: «وللعاهر الكثكث» .