أرى من النّبيّ صلى الله عليه وسلّم اللّطف الّذي كنت أرى منه حين أمرض، إنّما يدخل فيسلّم ثمّ يقول: كيف تيكم؟ لا أشعر بشيء من ذلك حتّى نقهت فخرجت أنا وأمّ مسطح قبل المناصع متبرّزنا، لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرّيّة أو في التّنزّه. فأقبلت أنا وأمّ مسطح بنت أبي رهم نمشي، فعثرت في مرطها فقالت:
تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبيّن رجلا شهد بدرا؟ فقالت: يا هنتاه، ألم تسمعي ما قالوا؟
فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي. فلمّا رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي إلى أبويّ- قالت:
وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما- فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فأتيت أبويّ، فقلت لأمّي: ما يتحدّث به النّاس؟ فقالت: يا بنيّة، هوّني على نفسك الشّأن، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلّا أكثرن عليها. فقلت: سبحان الله! ولقد يتحدّث النّاس بهذا؟ قالت: فبتّ تلك اللّيلة حتّى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثمّ أصبحت. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. فأمّا أسامة فأشار عليه بالّذي يعلم في نفسه من الودّ لهم. فقال أسامة: أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلّا خيرا. وأمّا عليّ بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيّق الله عليك. والنّساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بريرة فقال: يا بريرة، هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت بريرة: لا والّذي بعثك بالحقّ، إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قطّ أكثر من أنّها جارية حديثة السّنّ تنام عن العجين فتأتي الدّاجن فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم من يومه.
فاستعذر من عبد الله بن أبيّ ابن سلول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلّا خيرا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلّا معي. فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، والله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج- وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحميّة- فقال: كذبت لعمر الله، والله لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن الحضير فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همّوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم على المنبر. فنزل فخفضهم حتّى سكتوا وسكت. وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتي ويوما حتّى أظنّ أنّ البكاء فالق كبدي. قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي. فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها. وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء.
قالت: فتشهّد ثمّ قال: «يا عائشة، فإنّه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت