وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (?) وهذه عقوبات عاجلة وقال تعالى عن عقوبتهم الآجلة إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (?) الآيات، ذلك أن مقترفي هذا الفعل والذنب الكبير يقدحون في الأنساب وينتهكون الأعراض البريئة، وينشرون لأولئك الأبرياء سمعة سيئة تقشعر منها الجلود، وتنكس منها الرءوس حياء وخجلا مع بعدهم عن تلك الجرائم المزعومة ونزاهتهم عن اقترافها فكانت عقوبة من قذفهم بها الجلد ورد الشهادة، والحكم عليهم بالفسق الذي هو الخروج عن العدالة والطاعة مع استحقاقهم للعن وهو الطرد، والإبعاد عن رحمة الله، وللعذاب العظيم في الدار الآخرة، ونحو ذلك مما يكون زاجرا لهم عن الكذب والافتراء على المؤمنين والاستهتار والهتك للأعراض فيأمن الناس ويطمئنون في حياتهم وتتم بينهم المودة والإخاء وتزول العداوة والشحناء، مما يكون سببا للتقاطع والتدابر والتهاجر الذي جاء الشرع بالنهي عنه وتحريمه، لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة من اختلال الأمن، ووقوع الفتن، وتسلط الأعداء ونحو ذلك، وكما شرع تعالى عقوبة وحدّا مانعا لمن تعاطى شرب المسكرات بعد أن أوضح تحريم الخمر وما فيها من المفاسد فقرنها بالأنصاب وهي الأصنام وأخبر بأنها رجس أي نجس وقذر حسّي أو معنوي وأنها من عمل الشيطان فهو الذي يزينها ويدعو إلى الوقوع فيها ويوقع بسببها بين المسلمين العداوة والبغضاء ويصدهم بتعاطيها عن ذكر الله وعن الصلاة رغم ما فيها من إزالة العقل الذي هو ميزة الإنسان وفضيلته، فبزواله يكون دون البهائم والسفهاء، ويتصرف تصرف المجانين والمعتوهين، فيهلك الحرث والنسل ويضر بالأنفس والأموال والأهل والأولاد، وما إلى ذلك من المفاسد الكبرى التي تنتج عن تعاطي المسكرات والمخدرات، ولا يقتصر ضررها على الجاني وحده؛ بل يلحق بالمجتمع أجمع إلا ما شاء الله، فلا جرم أن جرّمه، جاء في السّنة جلد شارب الخمر بما يزجره كأربعين جلدة أو ثمانين إن لم ينزجر بالأربعين، بل ثبت في السنة الأمر بقتله إذا أدمن ذلك ولم ينزجر بتكرار الجلد؛ ففي هذه العقوبات والوعيد الشديد عليها ما يكفي في الكفّ عنها وما يحفظ للعقول سلامتها ويبقي بذلك على سلامة التفكير؛ ويكفل للأمة أمنها ورخاءها وسلامتها من الأضرار والشرور الوخيمة والإبقاء على عقول البشر لتصرف تفكيرها فيما يعود عليها وعلى غيرها بكامل الخير والمصلحة وذلك أكبر مثال على كمال هذه الشريعة وتضمنها لمصالح العباد، وهكذا أيضا شرع عقوبة السارق بقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (?) ذلك أن السارق يهتك الأستار والحروز ويكسر الأقفال ويتسلق الحيطان، ويصعب التحصن والتحرز من شره وضرره، فكانت عقوبته قطع يده، تلك اليد الآثمة المتعدية الظالمة حيث إن جنايته تتوقف على العمل باليد غالبا فكان بقاء هذا العضو المعتدي مما ينشر الوباء ويخل بالأمن والاطمئنان على الأموال المحترمة التي لها وقع في النفوس فأخذها عدوانا وظلما مما يوقع الخوف والقلق في القلوب؛ فشرع إزالة هذا العضو الذي ينشر الوباء والمرض العضال بين الناس، وكما اشتمل الشرع على هذه العقوبات والزواجر التي يحصل بتطبيقها كمال الأمن ورخاء العيش، فقد شرع عقوبات أخرى غير مقدرة بعدد أو نوع تسمى تعزيرا وتأديبا يعاقب بها من اقترف ذنبا أو ارتكب كبيرة لا حد فيها، مما يتعلق بالأديان أو الأبدان أو الأموال، وتتفاوت تلك العقوبات بتفاوت الجرائم والمجرمين، وكل هذه العقوبات- مقدرة أو غير مقدرة- تتضح فيها حكمة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015