المستحق لأن يفرد بالعبادة، فلا يجعل له شريك في الدعاء أو الرجاء أو التوكل أو الخضوع والركوع والسجود أو غيرها من أنواع العبادة، بل على الخلق أن يخصوه بكل أنواع التذلل والإخبات، وأن ينيبوا إليه ويعظموه حق التعظيم، لأنه ربهم وهم ملكه وعبيده وهو المنعم عليهم المتفضل عليهم بجزيل الإنعام، فمتى صدوا عنه وأعرضوا عن عبادته فقد كفروا بربهم وبدلوا نعمة الله كفرا وصرفوا لغيره خالص حقه، لذلك دعا الله العباد إلى عبادته وحده لا شريك له، وكرر الأمر بذلك وأبدى وأعاد في ذلك وضرب لهم الأمثلة، وبكّت أولئك المشركين وبين حال ما عبدوه من دون الله وأنها مخلوقة مثلهم ولا تملك لأنفسها شيئا فضلا عن عابديها كما وصف نفسه عز وجل بصفات الكمال ونعوت الجلال التي تتضمن إحاطته بالمخلوقات، وعلمه بالأول والآخر وسمعه وبصره المحيط بالقاصي والداني، وكل وصف يقتضي عظمته وكبرياءه وقر به من العباد، ووصف نفسه بالأولية والبقاء والدوام والفضل والإنعام ونحو ذلك مما يستلزم خضوع العباد له، وإنابتهم إليه وإخلاص الدين له، ولما كانت العبادة مجملة لا دخل للعقل في معرفة مفرداتها وأمثلتها تضمن شرع الله ورسالة رسوله بيانها وإيضاح أنواعها فبين لهم العبادات البدنية كالصلاة والصوم والحج والجهاد والاعتكاف في المساجد ونحوها وشرح لهم جميع متعلقاتها وأركانها وشروطها وصفاتها التي تكون بها مجزئة تبرأ بها الذمة وتسلم من العهدة، كما بين لهم النوافل منها، ورغبهم في الإكثار من القربات التي يترتب عليها جزيل الثواب، وهكذا حثهم على العبادات القولية؛ فأمرهم بذكره ودعائه تضرعا وخفية، وبتلاوة كتابه، وبالدعوة إلى دينه، كما أمر بأداء العبادات المالية، فأخبرهم بما يجب عليهم في أموالهم من زكاة ونذر وصدقة ونفقة، وبما لهم من الثواب إذا تبرعوا له بشيء من أموالهم فأنفقوه في سبيله، وهكذا أوضح لهم سائر القربات التي هي حقه على العباد، وبها يتحقق وصفهم بالعبودية له وحده. ولم يقتصر على هذا القدر من البيان بل تطرق إلى أمورهم المالية الأخرى، وأوضح لهم وجوه المكاسب ومداخل الأموال، وما يحل منها وما لا يحل وحرم عليهم الكثير من المعاملات التي تحتوى على ضرر بالغير، من مكر ورشوة وربا وغش وسرقة ونهب وغصب إلخ ... وأباح لهم سائر المكاسب التي لا شبهة في حلها وهكذا تطرق إلى بقية الأحكام المالية فأوضح ما يحل منها وما لا يحل ولم يقف البيان الشرعي عند هذا الحد، بل بين الله في رسالة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أحكام العقود التي لها صلة بالغير من المسلمين أو غيرهم كعقد الذمة والأمان والصلح والمعاهدات. وعقد النكاح وملك اليمين وما يتصل بذلك للحاجة الضرورية في هذه الحياة إلى أمثال ذلك، وهكذا أيضا شرع الحدود والعقوبات البدنية والمالية لما لها من الآثار الملموسة في استتباب الأمن واستقرار الحياة، فلما كان من طبع الإنسان- إلا من عصم الله- الميل إلى الشهوات والملذات ولو محرمة أو إلى الأشر والبطر أو إلى الظلم والاعتداء أو إلى السلب والنهب والسرقة والاختلاس ونحو ذلك فلو ترك هؤلاء وميولهم لاختل الأمن وعدمت الطمأنينة في الحياة وانتشرت الفوضى، وأصبح الضعيف نهبة للقوي، وسيطر الظلمة الطغاة على البلاد والعباد، وأعلنوا كفرهم وبغيهم وفجورهم، بدون خوف أو مبالاة، فكان من حكمة الرب جل وعلا أن شرع من الزواجر والعقوبات ما يقمع أهل الشرور والمعاصي، فمن ارتد عن دينه وكفر بعد إسلامه لم يقر على ذلك بل حده القتل بكل حال إن لم يتب عن ردته، ومن تعاطى السحر أو الشعوذة أو عمل الكهانة ونحو ذلك شرع قتله قبل أن يستشري فساده في البلاد مما ينافي حكمة الرب تعالى، ومن بغى على إمام المسلمين وخرج عن طاعته وفارق جماعة المسلمين لزم قتاله بعد الدعوة