قال ابن تيميّة- رحمه الله تعالى-: القنوت الّذي يعمّ المخلوقات أنواع:
أحدها: طاعة كلّ شيء لمشيئته وقدرته وخلقه، فإنّه لا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته وملكه، بل هو مدبّر معبود.
وعلى هذا الوجه، فالقانت قد لا يشعر بقنوته، فإنّ المراد بقنوته كونه مدبّرا مصرّفا تحت مشيئة الرّبّ من غير امتناع منه بوجه من الوجوه، وهذا شامل للجمادات والحيوانات وكلّ شيء. قال تعالى: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها (هود/ 56) ، وقال تعالى:
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس/ 83) .
النّوع الثّاني من القنوت: هو ما يشعر به القانت، وهو اعترافهم كلّهم بأنّهم مخلوقون مربوبون وأنّه ربّهم، كما تقدّم.
الثّالث: أنّهم يضطرّون إليه وقت حوائجهم فيسألونه ويخضعون له، وإن كانوا إذا أجابهم أعرضوا عنه. قال الله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ (يونس/ 12) ، وقال تعالى:
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (الإسراء/ 67) . وهو أخبر أنّهم له قانتون، فإذا قنتوا له فدعوه، وتضرّعوا إليه عند حاجتهم كانوا قانتين له، وإن كان إذا كشف الضّرّ عنهم نسوا ما كانوا يدعون إليه وجعلوا له أندادا.
الرّابع: أنّهم كلّهم لا بدّ لهم من القنوت والطّاعة في كثير من أوامره وإن عصوه في البعض، وإن كانوا لا يقصدون بذلك طاعته، بل يسلّمون له ويسجدون طوعا وكرها. وذلك أنّه أرسل الرّسل وأنزل الكتب بالعدل، فلا صلاح لأهل الأرض في شيء من أمورهم إلّا به، ولا يستطيع أحد أن يعيش في العالم مع خروجه عن جميع أنواعه، بل لا بدّ من دخوله في شيء من أنواع العدل.
الخامس: خضوعهم لجزائه لهم في الدّنيا والآخرة، كما ذكر من ذكر أنّهم قانتون يوم القيامة، وهو سبحانه قد يجزي النّاس في الدّنيا فيهلكهم وينتقم منهم، كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وفرعون، فكانوا خاضعين منقادين لجزائه وعقابه قانتين له كرها. والجزاء يكون في الدّنيا، وفي البرزخ وفي الآخرة، وهو سبحانه قائم على كلّ نفس بما كسبت، وهو قائم بالقسط، والجميع مستسلمون لحكمه، قانتون له في جزائهم على أعمالهم، والمصائب الّتي تصيبهم في الدّنيا جزاء لهم. قال تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (الشورى/ 30) ، وقال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء/ 79) .
فهذه خمسة أنواع: قنوتهم لخلقه وحكمه وأمره قدرا، واعترافهم بربوبيّته، واضطرارهم إلى مسألته والرّغبة إليه، ودخولهم فيما يأمر به وإن كانوا كارهين،