قال الإمام الغزاليّ- رحمه الله-: إنّ اللّسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة. فإنّه صغير جرمه (?) ، عظيم طاعته وجرمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلّا بشهادة اللّسان، وهما غاية الطّاعة والعصيان. وأعصى الأعضاء على الإنسان اللّسان، فإنّه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريكه. وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله، والحذر من مصائده وحبائله. وإنّه أعظم آلة للشّيطان في استغواء الإنسان.
واللّسان رحب الميدان، ليس له مردّ، ولا لمجاله منتهى وحدّ. له في الخير مجال رحب، وله في الشّرّ ذيل سحب، فمن أطلق عذبة (?) اللّسان، وأهمله مرخيّ العنان (?) سلك به الشّيطان في كلّ ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطرّه إلى البوار، ولا يكبّ النّاس في النّار على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شرّ اللّسان إلّا من قيّده بلجام الشّرع، فلا يطلقه إلّا فيما ينفعه في الدّنيا والآخرة، ويكفّه عن كلّ ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
ذلك أنّ خطر اللّسان عظيم، ولا نجاة من خطره إلّا بالصّمت، فلذلك مدح الشّرع الصّمت وحثّ عليه.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من صمت نجا» (?) . (?)
يقول الماورديّ: اعلم أنّ الكلام ترجمان يعبّر عن مستودعات الضّمائر، ويخبر بمكنونات السّرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على ردّ شوارده، فحقّ على العاقل أن يحترز من زلله، بالإمساك عنه، أو بالإقلال منه. وفى شروط الكلام يقول الماورديّ: واعلم أنّ للكلام شروطا لا يسلم المتكلّم من الزّلل إلّا بها، ولا يعرى من النّقص إلّا بعد أن يستوفيها. وهي أربعة:
الشّرط الأوّل: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إمّا فى اجتلاب نفع، أو دفع ضرر. ذلك أنّ مالا داعي له هذيان، وما لا سبب له هجر، ومن سامح نفسه في الكلام إذا عنّ، ولم يراع صحّة دواعيه، وإصابة معانيه، كان قوله مرذولا، ورأيه معلولا.
الشّرط الثّاني: أن يأتي به في موضعه، ويتوخّى به إصابة فرصته؛ لأنّ الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به، وما لا ينفع من الكلام فقد تقدّم القول بأنّه هذيان وهجر، فإن قدّم ما يقتضي التّأخير كان عجلة وخرقا، وإن أخّر ما يقتضي التّقديم كان توانيا وعجزا، لأنّ لكلّ مقام قولا، وفي كلّ زمان عملا.
الشّرط الثّالث: أن يقتصر منه على قدر حاجته، فإنّ الكلام إن لم ينحصر بالحاجة، ولم يقدّر بالكفاية، لم يكن لحدّه غاية، ولا لقدره نهاية، وما لم يكن من الكلام محضورا كان إمّا حصرا إن قصر، أو هذرا إن كثر.
الشّرط الرّابع: اختيار اللّفظ الّذي يتكلّم به، لأنّ اللّسان عنوان الإنسان، يترجم عن مجهوله،