وبهذا يتّضح أنّ الفتوّة تشير إلى معان ذات قيمة أخلاقيّة عظمى، حتّى وإن كانت في الأصل لا تشعر بمدح ولا ذمّ كما يقول الفيروز اباديّ (?) ، ثمّ انتقلت اللّفظة بعد ذلك للدّلالة على معنى «استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق» كما يقول ابن القيّم- رحمه الله تعالى- (?) ومعنى هذه العبارة أنّ الفتوّة هي التّطبيق العمليّ والتّنفيذ الفعليّ لما تقتضيه الأخلاق الحميدة الّتي لا بدّ أن يتحلّى بها من اتّصف بالفتوّة، وقد عدّها- رحمه الله تعالى- من منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ* وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فقال: حقيقة هذه المنزلة هي الإحسان إلى النّاس وكفّ الأذى عنهم، واحتمال أذاهم «وهي إذن نتيجة حسن الخلق واستعماله (أي إخراجه إلى حيّز الوجود بعد أن كان هيئة راسخة في النّفس) .
وأقدم من تكلّم في الفتوّة جعفر الصّادق ثمّ الفضيل بن عياض، والإمام أحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التّستريّ والجنيد، (ومن سار على نهجهم) ، وقد سئل جعفر الصّادق عن الفتوّة فقال للسّائل: ما تقول أنت؟ قال: إن أعطيت شكرت، وإن منعت صبرت، فقال (جعفر) : لكن المروءة عندنا: إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا.
وقال الفضيل: الفتوّة الصّفح عن عثرات الإخوان.
وقال الإمام أحمد: الفتوّة: ترك ما تهوى لما تخشى.
وقال الجنيد: الفتوّة ألّا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيّا.
وقال المحاسبيّ: الفتوّة أن تنصف ولا تنتصف.
وقال التّرمذيّ: الفتوّة أن تكون خصيما لربّك على نفسك، وقيل: هي ألّا ترى لنفسك فضلا على غيرك (?) .
وقد لخّص ابن القيّم- رحمه الله تعالى- هذه الأقوال عند ما ذكر أنّ أصل الفتوّة عندهم هي أن يكون العبد أبدا في أمر (خدمة) غيره (?) .
وهذا الخلق الرّفيع لا يتأتّى بكماله إلّا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- كما يقول الدّقّاق- فإنّ كلّ أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي، وهو يقول: أمّتي أمّتي (?) .
وفيما يتعلّق بالفرق بين المروءة (?) والفتوّة فيتمثّل في أنّ بينهما عموما وخصوصا يقول ابن القيّم موضّحا لهذا الفرق: الفتوّة نوع من أنواع المروءة إذ المروءة استعمال ما يجمل ويزين ممّا هو مختصّ بالعبد، أو متعدّ إلى غيره، وترك ما يدنّس ويشين ممّا هو مختصّ أيضا به أو متعلّق بغيره، أمّا الفتوّة فهي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق (?) ، أي إنّ المروءة تتعلّق بالنّفس وبالغير، والفتوّة تتعلّق بالغير فقط إذ هي أن