ومثل هذه الأشياء من اللغز والأُحجية والأغاليط، والإتيان بالكلمة المعجمة وبعدها المهملة، وبالحرف المعجم وبعده المهمل، أو صدر بيت كذا وعجزه كذا.. كل ذلك لائق بالمقامات. أما في الترسل والخطب، فإنه يكره ويستثقل. لأن الترسل ليس المراد منه التفقه في الأدب وإنما هو إما لهناء أو عزاء أو شكر أو مدح أو وصف أو استعطاف أو عتب أو شوق أو غير ذلك. ومثل هذه الأشياء لا يليق بها التكلف.

على أنه وإن كان هذه الأنواع في المقامات، فينبغي أن يكون كاللمع اليسيرة، فإنها إذا كثرت سمجت. ألا ترى أن العماد الكاتب رحمه الله تعالى لما جعل كلامه مشحونا بالجناس لا تكاد كلمة تخلو من ذلك، ثقل على الأسماع والقلوب، ولم يكن له خفة كلام القاضي الفاضل على القلوب.

وقد يكون الشاعر مجيدا، فيأتي بنوع من التكلف وليس عليه أثر الكلفة. كقول ابن حمديس:

مزرفن الصدغ يسطو لحظه عبثا ... بالخلق، جذلان أن أشك الهوى ضحكا

لا تعرضنّ لوردٍ فوق وجنته ... فإنما نصبته عينه شركا

فالأول يجمع حروف المعجم كلها على عدم تبين الكلفة عليه.

وكذلك قول القائل:

لبقٌ أقبل فيه هيفٌ ... كلّ ما أملك إن غنّى هبه

فإن كل كلمتين من هذا لا يتغير معناهما بالانعكاس إلا القافية فإنها في نفسها معلومة. وليس عليه أثر الكلفة.

ومثله أيضاً:

أرضٌ خضرا فيها ... أهيف ساكب كاس

وكذا قول القائل:

أرانا الإله ... هلالا أنارا

وكذلك قول القائل:

تقتل تأثم ... تجور تندم

إذا عكس وصحف كان:

مذيب روحي متى نلتقي

ومثله قول القائل:

رفّت شمائل قاتلي ... فلذاك روحي لا تقرّ

ردّ الحبيب جوابه ... فكأنّه في اللفظ درّ

أول كل بيت، عكس الكلمة الأخيرة منه. وليس عليه كلفة.

وأما ابن الأثير، فكأنه يظن أن الأدب عبارة عن الترسل فقط، ولم يعلم أنه جزء منه وإن كان جزءا كبيرا، ونوعا جليلا.

وأقل هذه التكلفات استثقالا ما كان كله مهملا، لا بل لا يعد في شيء من الاستثقال، بل هو خفيف عذب في السمع والقلب. كقول الحريري:

أعدد لحسّادك حدّ السّلاح ... وأورد الآمل ورد السّماح

القصيدة كلها في غاية الحسن.

وقد وجدت للقاضي الفاضل رحمه الله تعالى خطبة وضعها لدخول العام الجديد، وهي طويلة كلها عري عن الإعجام، وهي في غاية الحسن. ولولا خوف الإطالة لأثبتها.

وقد وجدت الوراق الحظيري قد تكلف أشياء من هذه الأنواع، من ذلك بيتان كل كلمة منهما مهموزة. وهما:

بأبي أغيدٌ أذاب فؤادي ... إذ تناءى وأظهر الإعراضا

رشأٌ يألف الجفاء فإن أق ... بل أبدى لآمليه انقباضا

وفي انقباض نظر؛ كاد قول أبي الطيب:

أُمّي أبا الفضل المبرّ أليّتي ... لأُيممنّ أجلّ بحرٍ جوهرا

يكون من هذا اللزوم، وفيه مع تكرار الهمز تكرار الشدات.

ومن ذلك قطعة إذا قرئت لا تتحرك فيها الشفتان. وهي:

ها أنذا عاري الجلد ... أسهرني الذي رقد

آهٍ لعينٍ نظرت ... إلى غزالٍ ذي غيد

أريتني يا ناظري ... صيد الغزال للأسد

إنّ الضّنى لهجره ... يا عاذلي هدّ الجسد

حشا حشاي إذ نأى ... نار الغضا حين شرد

يا غادرا غادرني ... على لظى نارٍ تقد

ألاّ اصطنعت ناحلا ... لا يشتكي إلى أحد

ومن ذلك قطعة، أنصافها الأول معجمة، والثواني مهملة. منها:

بي شغفٌ شبّ بين جنبي ... دواؤه الودّ والوصال

يبثّ بثّي خفيّ غيظٍ ... أحور موعوده محال

زين بشيئين غنج جفنٍ ... وملح دلٍّ له كمال

قال: وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم:

وفتىً من مازنٍ ... قد فاق أهل البصره

أمّه معرفةٌ ... وأبوه نكره

وهل يشك في حسن هذا المعنى ولطافته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015