فما كان إلا أن قال بعد ذلك البيت: يا من لا أسميه ولا أكنيه، وأذكر غيره وهو الذي أعنيه لا تكن ممن أوتي ملك الملاحة فلم ينظر إلى زواله، وعرف مكانه من القلوب فجار في إدلاله، ولا تغتر بقول من رأى الحسن للإساءة ماحيا، واعلم أن اللاحي يقول: كفى بالتذلل لاحيا، وكثيرا ما يزول العشق بجنايات الصدود، والزيادة في الحد نقص في المحدود. وقد قيل: إن الحسن عليه زكاة كزكاة المال، وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارة عن الوصال، وهذه صدقة تقسم على أربابها، ولا ينتظر أن يحول الحول في إيجابها، فهي مستمرة على تجدد الأيام، والمستحقون لها قسم واحد ولا يقال إنهم ثمانية أقسام، وهؤلاء هم المخصوصون بفك الرقاب، ورقبة العشق أشد أسرا من رقبة تتحرر بالكتاب. فاخرج يا مولاي من هذا الحق الواجب، وإلا فتأت لطالب منىً وأي مطالب، ولا تقل هذا غريم أكثر عد الليالي في مطله، وأعده والمواعيد زاد لمثله، فهذه سلعة قد عاملتني بها مرة ساخرا ومرة ساحرا، ومن الأقوال السائرة إن الغر تجعله التجربة ماهرا، ولعمري إن ممارسة الحب تجدد لصاحبه علما، وتبصرةً وإن كان كما يقال أعمى، وقد كذب القائل:

عرّصن للذي تحبّ بحب ... ثم دعه يروضه إبليس

فإن كانت الرياضة كما قيل لإبليس فما أراه صنعا في الذي صنع، وأراك استعصيت عليه استعصاء القارح وأنت جذع، ولا شك أنك تهدم ما يشيده من البناء، وأنك مستثنى في جملة من دخل في حكم الاستثناء، وأنا الآن له عائب، وعليه عاتب. فأين نفاثاته التي هي أخدع من الحبائل، وأين قوله لآتينهم عن الأيمان والشمائل، وأين جنوده المسترقة ما في السماء، التي تجري منهم مجرى الدماء. وكل هذا قد بطل عندي خبره، كما بطل عندي أثره، فإن أدركته النخوة بأني استهزأت بتصديق أفعاله، فليحلل معقول حاجتي هذه حتى أعلم أنه قادر على حل عقاله، وإلا فليخف راسه، وليمح وسواسه، وإن كان له عرش على البحر فليقوض من عرشه، وليعلم أن السحر ليس في عقده ونفثه ولكنه في الأصفر ونقشه، وها أنذا قد بعثت بما يجعل العزم محلولا والود مبذولا، وما أقول إلا أني بعثت معشوقا إلى معشوق، وكلاهما محله من القلب بل القلب من حبها مخلوق، وما أكرمه وهو وسيلة إلى مثله، وحسنه من حسنه وإن لم يكن شكله من شكله، وما وصفه واصف إلا كان ما رآه منه فوق ما رواه، ومن أغرب أوصفاه وأحسنها أنه لم ير ذو وجهين وجيها سواه، ولا جرم أنه إذا سفر في أمر تلطف في فتح أبوابه، وتناول وعره فبدله بسهمه وبعده فبدله باقترابه، ولو بعثت غيره لخفت أن لا يكون في سفارته صادقا، وأنه كان يمضي سفيرا ويعود عاشقا، فليس على الحسن أمانه، وفي مثله تعذر الخيانة، ولا لوم على العقول إذا نسيت هناك عزيمة رشدها، ورأت ما لا يحتمله كاهل جهدها، ومن ذا الذي يقوى درعه على تلك السهام، أو يروم النجاة منها وقد حيل بينه وبين المرام، وهذا الذي منعني إلا أن أرسل كيسا أو كتابا، فأحدهما يكون في السفارة محسنا والآخر على السر حجابا، والسلام إن شاء الله تعالى.

أقول: إنه لما فرغ من هذه الرسالة، أخذ على العادة في تفريط كلامه لما ابتدعه من ذكر الزكاة ووصف الدينار بمعنى الحديث، وأن الذي اتفق له لم يظفر به الحريري ولا سبق إليه وأقول: إنني ما سمعت ولا رأيت ولا أسمع ولا أرى بمن راسل محبوبه بمثل هذه الأشياء، وتهدد بأن العشق يزول بالصدود، والزيادة في الحد نقص في المحدود، وأن الوصال زكاة تجب عليك ولا تقل إنها في العام بل في كل وقت، فأخرج من هذا الحق الواجب عليك، ولا تقل إني غريم هين الطلب، فكم تسخر بي، فما أنا كما كنت والتجربة تجعل الغر ماهرا، ولكن المحب أعمى ثم أخذ في ذم إبليس وتأنيبه وتوبيخه، وأنه ليس بصاحب الوسوسة والإغواء والسحر إنما هو للدينار، وها أنا قد جهزت شيئاً من ذلك، وما بقي بعد أن أجهز المعشوق إلى المعشوق شيء. ثم أخذ يصف الدينار.

نعم هذه العبارة والتهديد تصلح أن تكون في حق عدو خرج من الصداقة إلى العداوة أو متول أكثر الظلم والفساد في البلاد والعباد، ولم يفده الإنذار ولا التحذير، أو عبد خرج عن طاعة مولاه ولم يخف سلطانه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015