ضَعْفَ بَعْضِهَا وَسَكَتَ عَنْ بَعْضِهَا، وَقَدْ حَكَى لَنَا مَشَايِخُنَا أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ 721 لَمَّا وَرَدَ مِصْرَ سَأَلَهُ بَعْضُ أَهْلِهَا تَصْنِيفَ شَيْءٍ فِي الْجَهْرِ، فَصَنَّفَ فِيهِ جُزْءًا، فَأَتَاهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: كُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَأَمَّا عَنْ الصَّحَابَةِ: فَمِنْهُ صَحِيحٌ. وَضَعِيفٌ، ثُمَّ تَجَرَّدَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ لِجَمْعِ أَحَادِيثِ الْجَهْرِ، فَأَزْرَى عَلَى عِلْمِهِ بِتَغْطِيَةِ مَا ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَنْكَشِفُ، وَقَدْ بَيَّنَّا عِلَلَهَا وَخَلَلَهَا، ثُمَّ إنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَحْمِلُ أَحَادِيثَهُمْ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ جَهَرَ بِهَا لِلتَّعْلِيمِ، أَوْ جَهَرَ بِهَا جَهْرًا يَسِيرًا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ، وَالْمَأْمُومُ إذا قرب منه الْإِمَامَ أَوْ حَاذَاهُ سَمِعَ مَا يُخَافِتُهُ، وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ جَهْرًا، كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ فَيُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ أَحْيَانَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ الْجَهْرِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يُدْعَى - رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ -، فَقَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: إنَّمَا يَدْعُو إلَهَ الْيَمَامَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِإِخْفَائِهَا، فَمَا جَهَرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْجَهْرِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ الْبَحْثِ وَالتَّأْوِيلِ، فَقَالَ: إنَّ أَحَادِيثَ الْجَهْرِ تُقَدَّمُ عَلَى أَحَادِيثِ الْإِخْفَاءِ بِأَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْإِخْفَاءِ رَوَاهَا اثْنَانِ مِنْ الصَّحَابَةِ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ المغفل، وَأَحَادِيثُ الْجَهْرِ رَوَاهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا. وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَادِيثَ الْإِخْفَاءِ شَهَادَةٌ عَلَى نَفْيٍ، وَأَحَادِيثَ الْجَهْرِ شَهَادَةٌ عَلَى إثْبَاتٍ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلُ بِلَالٍ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتِ عَلَى قَوْلِ أُسَامَةَ. وَغَيْرِهِ: إنَّهُ لَمْ يُصَلِّ، قَالُوا: وَبِأَنَّ أَنَسًا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ إنْكَارُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، فَرَوَى أَحْمَدُ2 والدارقطني مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ أَبِي مَسْلَمَةً، قَالَ: سَأَلْت أَنَسًا أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بسم الله الرحمن، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: إنَّك لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ، أَوْ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَك، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قُلْنَا: أَمَّا اعْتِرَاضُهُمْ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، فَالِاعْتِمَادُ عَلَى كَثْرَةِ الرُّوَاةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ صِحَّةِ الدَّلِيلَيْنِ، وأحاديث الجهر ليس فيه صَحِيحٌ صَرِيحٌ، بِخِلَافِهِ حَدِيثُ الْإِخْفَاءِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ صَرِيحٌ ثَابِتٌ مُخَرَّجٌ فِي الصِّحَاحِ. وَالْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَرَوْنَ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِبُعْدِ احْتِمَالِ الْغَلَطِ عَلَى الْعَدَدِ الْأَكْثَرِ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا أَرْبَعَةً، لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْحُدُودِ، وَأَحَادِيثُ الْجَهْرِ، وَإِنْ كَثُرَتْ رُوَاتُهَا لَكِنَّهَا كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ كَثُرَتْ رُوَاتُهُ وَتَعَدَّدَتْ