بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: فَقَرَأَ، لَسَاغَ لِمَنْ لَا يَرَى قِرَاءَتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ1 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَمْ يَسْكُتْ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بسم الله الرحمن الرحيم لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَقَرَأَهَا فِي الثَّانِيَةِ كَمَا قَرَأَ فاتحة الكتاب، والذي اسْتَحَبُّوا الْجَهْرَ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، اسْتَحَبُّوا ذَلِكَ أَيْضًا فِي الثَّانِيَةِ، فَلَمَّا انْتَفَى بِهَذَا أَنْ يَكُونَ قَرَأَهَا فِي الثَّانِيَةِ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ قَرَأَهَا فِي الْأُولَى، وَعَارَضَ هَذَا حَدِيثَ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى لِاسْتِقَامَةِ طَرِيقِهِ، وَفَضْلِ صِحَّتِهِ عَلَى حَدِيثِ نُعَيْمٍ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ الِاسْتِفْتَاحَ بالسورة لا الآية، قُلْنَا: هَذَا فِيهِ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَسُوغُ إلَّا لِمُوجِبٍ، وَأَيْضًا فَلَوْ أَرَادَ اسْمَ السُّورَةِ لَقَالَ: بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. أَوْ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، أَوْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تَسْمِيَتِهَا عِنْدَهُمْ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ2 مَرْفُوعًا: أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ3 مَرْفُوعًا: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ"، وَفِي رِوَايَةٍ: بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِجُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِفْتَاحَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الْبَسْمَلَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ إسْنَادُهُ أَصْرَحُ دَلَالَةً مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَصْلَ الصَّلَاةِ وَمَقَادِيرَهَا وَهَيْئَتَهَا، وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ يَكْفِي فِي غَالِبِ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ، دُونَ الْبَسْمَلَةِ، فَإِنَّ التَّكْبِيرَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ثَابِتٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ، فَفِي صِحَّتِهَا عَنْهُ نَظَرٌ، فَلْيَنْصَرِفْ إلَى الصَّحِيحِ الثَّابِتِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِمَّا يَلْزَمُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّشْبِيهِ عَنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ4، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِمًا حَتَّى يَقُولَ القائل: فد نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ، فَهَذَا أَنَسٌ قَدْ أَخْبَرَ بِشَبَهِ صَلَاتِهِ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يُطِيلُ رَكْعَتَيْ الِاعْتِدَالِ