اللاحب1، يقول أبو الطيب: "فلم يزل أهل المصرين على هذا حتى انتقل العلم إلى بغداد قريبا وغلب أهل الكوفة على بغداد، وخدموا الملوك فقربوهم، فأرغب الناس في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر وتباهوا بالترخيصات وتركوا الأصول واعتمدوا على الفروع فاختلط العلم"2.

لقد استحوذ الكوفيون على بغداد وحالوا دون اتصال البصريين بها، بينما حاول البصريون الولوج إليها تلهفا على مقاسمة الكوفيين حظوتهم فلم يفلحوا، وفي حادثة سيبويه الماضية التي كان فيها القضاء عليه ما يشهد بتآمرهم عليهم ومناصرة العباسيين وبطانتهم لهم.

على أنه مع هذا العنت الشديد والضغط المقيت قد نفذ إلى بغداد قليل منهم "كاليزيدي" توفي 202هـ إلا أن اتصاله يرجع إلى حسن وقته الذي سهل له الدخول في غمار العلماء الكوفيين ببغداد، فإنه قدم إليها قبل استفحال العداء العلمي بين البلدين وقد ظهر فضله عند يزيد بن منصور خال المهدي فاستبقاه عندما استعرت نار المخاصمة، وطار به إلى قصور الخلفاء فجعله الرشيد من مؤدبي المأمون، ومع هذا فقد كان متطامنا أمام الكسائي أولا.

أما الأخفش الأوسط الذي قضى الشطر الأخير من حياته في بغداد فلسنا نحسبه فيمن نعد؛ إذ ما ارتحل إليها ليأخذ يحق سيبويه أستاذه من الكسائي وجها لوجه، لا رغبة في منزلة ولا في دنيا يصيبها، لكن الكسائي قد تغلب عليه بدهائه وقيده بإحسانه، فأقام عنده مؤدب أولاده حتى لقي ربه، ولقد كان لإقامته الطيبة مع الكسائي تأثيرها في نفسه حتى وافق الكوفيين في مسائل عدة ذات بال واحتذى حذوهم في العناية بالقياس وقد مر في ترجمته بسط المقال في ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015