وكان رأيا سديدا مباركا فيه جعل الدائرة تدور على أعداء الله وزلزل أقدامهم، ورعب قلوبهم، وكسر شوكتهم، وألان عريكتهم، وجعلهم أحاديث فسرعان ما كروا راجعين إلى ديارهم من حيث أتوا، مغلولين مقهورين مقموعين، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بعد حصار شديد عنيف على مدى سبع وعشرين ليلة متواصلة.
كان النصر على أعداء الله ساحقا ومروعا، شفى الله به الصدور، وأفلج به الحجة، وأذل به الحق سبحانه أعناق الطامعين فانقلبوا خاسرين ناكبين مغلولين.
وما أن تخفف المسلمون الظافرون من شكتهم ومن أسلحتهم، حتى أخلدوا يلتمسون الراحة، وما هي إلا سويعات حتى سمعوا مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة» .
وفي فهم هذا النداء انقسم الناس إلى فريقين في فقه مقصوده صلى الله عليه وسلم من أمره ألايصلين السامع المطيع العصر إلّا في بني قريظة، وكان إقراره صلى الله عليه وسلم لكلا الفريقين تسويغا وتجويزا للاجتهاد ومشروعية التدبر والتأمل، حتى في وجوده صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم.
فالبعض فهم أنه لا بد أن ينفذ الأمر على ظاهر اللفظ فسارع بالنهوض وخف لتنفيذ هذا الأمر، وفي معتقده أن الظاهر هو المقصود باللفظ ومدلوله ...
ولم ير هذا النفر داعيا لتأويله فأنظروا صلاة العصر حتى بلوغهم بني قريظة ...
لكن الاخرين رأوا أن اللفظ محمول على المجاز وهو كناية من النهوض والمسارعة بعزيمة قوية، وهمة شجاعة فصلوا في الطريق لفهمهم وفقههم بأن الظاهر ليس مقصودا لذاته..