ويخفيها، ويتباهى بها، ويضن بها على من شوقوه إليها، فصار الكتاب أسطورة.
وتعطش الناس إليه توالى على مر الزمن، ومرجعه إلى فقدانه من أصله، إذ صادرته الحكومة التونسية لما ظهر، ولعل سبب ذلك ما أبداه مؤلفه فيه من تقدير لعلي باشا الأول المنازع لسلطة عمه حسين بن علي وذريته، حكام تونس، فقال كراتشكوفسكي في ذلك: «ويبدو أنه قد مسّ مسائل معاصرة لأن حكومة تونس صادرته على الفور ولم ينشر الكتاب» (?). وكتب أحمد بن أبي الضياف عن قلة انتشار تآليف مقديش رغم معرفة الناس له فقال: «وكتب تاريخه المعروف ولم نر تآليفه لأنها لم تصل إلى حاضرة تونس» (?)، وكما قال محمد مخلوف في نفس الإتجاه: «وتاريخه غالبه في صفاقس وعلمائها» (?).
ويرجع تعطش الناس إلى هذا المؤلف أيضا إلى مادة الكتاب، فالمؤلف أرخ لمدينته، بناء على طلب كما ذكر في مقدمته، وفي اتجاه معين يستجيب لميول دينية، وبطولية وملحمية، وخرافية كما نفهم من اختياره، وتقصيره أو تمديده لمختلف مواد الكتاب، ويستجيب لمستويات متوسطة في الفهم والثقافة باستعمال لغة بين العامية والفصحى، فنزهة الأنظار كتاب تاريخ، وأسطورة، ومعتقد ديني، وأخبار اجتماعية، يقرأ ويحكى، الوحيد في شكله الذي يداعب شعور أهل صفاقس ويستجلبهم للبحث فيه عن ذاتهم وأصولهم، لعدم مزاحم له.
وشغف الناس بالمفقود، وارضاء طلباتهم المتكررة لنشره، سبب من الأسباب التي دعتنا لتحقيقه، وليس السبب الوحيد ولا الأساسي، فالذي دعانا إلى تحقيقه أساسا، وإرضاء رغبات الناس في آن واحد، سببان متكاتفان:
استعماله كمرجع للبحث التاريخي، وإصلاح الأخطاء التي وردت في مخطوطاته، وخاصة النسخة المطبوعة المستعملة لدى الباحثين.
فنزهة الأنظار كتاب له قيمة لا يمكن نكرانها رغم نقائصه التي سنبينها في المقدمة، وإن كانت فائدة الجزء الأول من الكتاب محدودة فإن الجزء الثاني له أهمية خاصة وأهمه الخاتمة التي يؤرخ فيها المؤلف لمدينته، وهي ثلث الكتاب بجزئيه وهو في هذا ينفرد بما لم يسبقه إليه غيره، ولا من لحق بعده من المؤرخين، فيضيف عن طريق التاريخ الجهوي، الذي أخذ حديثا مكانته في مفاهيم التاريخ الحديث،