ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما ما كان من أهل البادية ممن يجيب إذا دعي وفيه من أسباب العدالة ما في أهل العدالة من أهل الحضر؛ فشهادته مقبولة، وهو كأهل الحضر، ومن كان منهم لا يجيب إذا دعي، فلا تقبل شهادته.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: البدوي إذا كان عدلًا ظاهر العدالة وممن يجيب إذا دعي؛ تقبل شهادته، وإن كان من أهل الجفاء والغلظ غير ظاهر العدالة ولا يجيب إذا دعي؛ فإنه لا تقبل شهادته.
وقال الخطابي: إنما قال -عليه السلام-: "لا تقبل شهادة البدوي على القروي" لما في أهل البادية من الجفاء في الدين ومن الجهالة بأحكام الشريعة، ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها , ولا يقيمونها على حقها؛ لقصور علمهم عما يحيلها ويُغَيرِّها عن جهتها، وأما إذا كان عدلًا يقيم الشهادة على وجهها فإن شهادته جائزة، وهو قول عامة أهل العلم.
وقال أيضًا: والذي يُشهِد بدويًا ويدع جيرته من أهل الحضر؛ عندي مريب.
ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- في تبيان ذلك ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قدمت أم سنبلة الأسلمية ومعها وطب من لبن تهديه لرسول الله -عليه السلام-، فوضعته عنده ومعها قدح لها، فدخل النبي -عليه السلام- فقال: مرحبًا وأهلأ يا أم سنبلة فقالت: بأبي أنت وأمي، أهديت لك هذا الوطب من لبن، قال: بارك الله عليك صُبِّي في هذا القدح، فصبت له في القدح، فلما أخذه قلتُ: قد قلتَ لا أقبل هدية من أعرابي! فقال: أأعراب أسلم يا عائشة؟ إنهم ليسوا بأعراب ولكنهم أهل باديتنا، ونحن أهل حاضرتهم، إذا دعوناهم أجابونا وإذا دعونا أجبناهم، ثم شرب".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق. . . . فذكر بإسناده مثله.