ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحةٌ في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة ... ) (?).

فالمخالف للكتاب والسنة إما أن يكون مجتهداً مخطئاً، أو جاهلاً معذوراً، أو متعدياً ظالماً كأن يرتكب كبيرةً، أو منافقاً زنديقاً كأن يبطن الكفر ويظهر الإسلام، أو مشركاً ضالاً وهو المصرح بالكفر، وكلٌ يعامل بحسبه.

ومع ذلك فلا ينبغي أن يفهم أن من قام في حقه ما يمنع لحوق الوعيد به، أو عمله هذا -مخالفته للسنة- جائزٌ أو مشروع، فضلاً عن الوجوب أو الاستحباب.

العذر بالجهل (?):

لابد من التفريق بين جاهلٍ تمكن من العلم ومعرفة الحق ثم أعرض عنه، وآخر لم يتمكن من ذلك بوجه:

فالمتمكن المعرض مفرِّط تاركٌ للواجب عليه، لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم لا يتمكن منه بوجه، فهم قسمان:

الأول: مريد للهدى، مؤثرٍ له، محبٍ له، لكنه غير قادرٍ عليه وعلى طلبه، وذلك لعدم وجود من يُرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة.

الثاني: معرض لا إرادة له، لكنه لا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.

فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي، ونهاية معرفتي.

والثاني راضٍ بما هو عليه، لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته. فهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق:

فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه -بعد استفراغ الوسع في طلبه- عجزاً وجهلاً.

والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرقٌ بين عجز الطالب وعجز المعرض.

والمقصود في هذا المطلب بيان أن مخالفة منهج أهل السنة في الاعتقاد، قد تكون كفراً صريحاً، وقد تكون دون ذلك، والمخالف قد يكون كافراً معلناً كفره، وقد يكون منافقاً مبطناً كفره، وقد يكون معتدياً ظالماً، أو جاهلاً معذوراً، أو مجتهداً مخطئاً. قال ابن تيمية رحمه الله: (ليس كل من خالف في شيءٍ من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته ... بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً) (?).

المطلب الثاني

نتائج الالتزام بمنهج أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد، ونتائج المخالفة لذلك

وقد جمعت في ذلك عشرين نتيجةً، أذكرها على النحو التالي:

النتيجة الأولى: تحقيق كمال الدين، وتمام النعمة، وقيام الحجة:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015