فالنخب في المجتمع السعودي، كما أوردتها في كامل البحث، كانت في نشأتها وتكوينها، شديدة الخصوصية في مزجها بين عمق التراث وحداثة الحاضر دون أن تقع تحت تأثير ميراث ثقافي استعماري، كما حدث في أقطار عربية أخرى. لقد استطاعت هذه النخب أن تجمع ما يعده البعض (نقيضين) في ضرب من التوظيف المتبادل، فهي قد وظفت العلم والمعرفة والإدارة مثلاً، لتشد أزر العائلة والإقليم، وربما مثل ذلك أحد مصادر قوتها وفاعليتها.

هذه الخصوصية التي بدت لي جلية هي التي دفعتني إلى التعامل اليقظ مع التراث النظري المتراكم في تعريف النخب ومصادر قوتها، كما جاء في القسم الأول من البحث، مما ألزمني بدوره بعدم إغفال الحراك الاجتماعي الذي شهده المجتمع السعودي. فالخصوصية لا تنبع من مواريث الماضي فقط، بل أيضاً من انعطافات الحاضر القريب، وبالتحديد منذ قيام الدولة السعودية الحديثة التي ترافق قيامها مع الاكتشافات المبكرة للنفط، مما أخضع المجتمع السعودي في الآن نفسه، كما بينت في كامل هذا البحث.

إن الدارس المتأني للنخب السعودية ليقف على حضور المواريث فيها، وخصوصاً تلك المتعلقة بالقيم والرموز والمعايير. إن المتمعن في بنية هذا الجنين وتركيبته، أو ما سيطرأ عليه من تغييرات – على رغم بطئها ومحدوديتها – سيستفيق على حجم الموروث العائلي و (الإقليمي) الذي يسم تلك النخب.

لذلك كان لزاماً علي خضوعاً لمتقضيات المنهج وبحثاً عن سببية مفسرة أن أفرد لمواريث المجتمع السعودي المتعددة قسماً نقف فيه على هذه المواريث في تفاصيلها الدقيقة، وهي التي لا تزال حية توجه سلوك الأفراد والجماعات، ومن بينها سلوك النخب.

وهذا ما ناقشته في كتابي الثاني: السعودية السياسي والأيديولوجية، فالدين الإسلامي والعروبة إلى جانب البداوة والقبيلة الضاربة في عمق التاريخ الاجتماعي للجزيرة العربية قد حددت بصفة حاسمة أداء النخب، كما ساهمت في صياغة مواقفها ورؤاها. فالضمير الجمعي على النحو الذي حدده عالم الاجتماعي الفرنسي إميل دوركايم محكوم بهذا الثالوث: عروبة، إسلام، بداوة أو قبيلة (على اعتبار أن البداوة والقبيلة يكونان في اعتقادي مركباً واحداً منسجماً)، وهو الثالوث ذاته الذي ظل يضغط على النخب على رغم أنها تفوق المجتمع قدرة على التعاطي معه ضمن رهاناتها واستراجياتها الخاصة خضوعاً لوطأة التحولات العميقة التي ما زالت تهز المجتمع السعودي برمته.

إن هذا الارتهان إلى الموروث ذي الأبعاد الثلاثة المذكورة سلفاً لا يعني بأية حال أن النخب السعودية هي تطور من داخل الجسم التقليدي للمجتمع السعودي فحسب، فأنا لطالما أكدت خلال كامل فصول البحث على السمة الحديثة لهذه النخب باعتبارها، كما بينت ذلك، ولدت من (رحم) التحولات الحديثة التي مازال يشهدها المجتمع السعودي، فهي حداثية النشأة والمولد لكونها مدينة في تلك النشأة بالذات النشأة بالذات إلى قيام الدولة السعودية الحديثة التي غذاها في ما بعد النفط والتعليم.

فالثروة النفطية التي أعقبت مباشرة قيام الدولة السعودية الحديثة ستفتح لعصر جديد ستتغير معه ملامح المجتمع السعودي وكامل الجزيرة العربية على نحو سيفتح المجال للحديث عن التشوه العميق الذي لن يطول البنى الاجتماعية لهذا المجتمع فحسب، بل أيضاً رموزه وقيمه ومواقفه وراؤه.

فالنفط هو الذي حول إلى حد بعيد الصحراء التي ظلت لحقب طويلة صامتة خرساء، إلى فضاء صخب وحركة وضجيج إلى حد الضوضاء على نحو عنيف، بمقتضاه يتهيكل المجتمع السعودي وفق بنى جديدة لم يألفها من قبل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015