تاسعاً: إذا كان الكلام قد كثر في الكتاب عن حتمية الصراع بين أهل الحق من المسلمين، وأهل الباطل من الكتابيين، فإنه يجدر بنا هنا أن نقول: إن ما بيننا وبين أهل الكتاب ليس احتراباً فقط، ولكن دعوتنا لهم هي الأصل، أما الجهاد والجلاد فهو لمن طغى وبغى منهم، ولا ينبغي أن تنسينا غلبة الطغيان والبغي فيهم، أنهم محل دعوتنا قبل أن يكونوا محل جهادنا:) قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ? [آل عمران: 64].
صحيح أن المرحلة قد تكون مرحلة مواجهة مفروضة، ولكن من قال أن المواجهة هي الحروب فقط؟ إنها أيضاً مواجهة العقول والأفكار والحجج والبراهين.
وإذا كان النصارى مثلاً يملأون الدنيا نشاطاً باسم (التبشير)، فماذا أدّينا نحن تجاه دعوة البشير النذير ? وأنا أسأل هنا سؤالاً محدداً: أمام عشرات، بل مئات المواقع على (الإنترنت) والتي تتحرك في العالم بدعوات مفعمة بالتبشيرات الألفية، المنطلقة من العقائد الباطلة، كم يا ترى عدد المواقع الإسلامية في الإنترنت أو غيره، التي تطرح على القوم دعوة الحق في مقابل دعواتهم المرتبطة أساساً بمسائل عقدية في الألوهية والرسالة والنبوة والوحي والبعث؟ إنهم يخاطبون العالم كله اليوم بخطاب الخرافة، فمن يخاطبهم ويخاطب هذا العالم بحديث الحق والصدق الذي يكشف زيف ما يدّعونه وما يدعون إليه؟!
عاشراً: العلمانيون سيبرهنون ـ كعادتهم ـ على شدة الغباء في التعامل مع الظروف المصيرية التي تتعرض لها الأمة، فغالب الظن أن نصيبهم من التفاعل مع تداعيات الألفية، هو الالتهاء بالمشاركة في مظاهرها الاحتفالية الشركية التي تُعَظم فيها الصلبان، وترفع فيها الأوثان، ويتضاعف فيها العصيان وتنتهك فيها العقائد.
إن هؤلاء (العوام) المتربعين على كراسي القيادة والريادة الفكرية والإدارية لأمة الإسلام، لم يفهموا، ولن يفهموا أبعاد الصراع الديني الواقع والمتوقع، ولذلك فإنهم ـ إلا من شاء الله رحمته ـ سيكونون أول ضحايا الفتنة في الدين إذا عرضت أسبابها، وسيكونون أول الفارين، إذا ما نودي على من يحبون الشهادة أن هلموا للذود ـ في سبيل الله ـ عن الذات والمقدسات.
ولا شك أن هذا أيضاً مما يضاعف من مسؤولية أهل الإسلام الصادقين.
حادي عشر: في أزمنة الفتن والاستضعاف، تتعلق النفوس كثيراً بالمغيبات، والغيب حق، والإيمان به أول صفات المتقين في القرآن الكريم، ولكن الإيمان بالغيب أقوى دافع للعمل في عالم الشهادة، هكذا تعامل خير أجيال البشر من الصحابة ومن تبعهم ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ مع الغيب، أما أن تتخذ من أخبار الغيب تكأة للقعود والخمول باسم الانتظار، فهذا ليس دأب الفاقهين لسنن الله في الأنفس والآفاق، وقد شاعت في أوساط المسلمين في الآونة الأخيرة موجة حُمِّية أشبه بموجة الحمى الألفية غير أنها تختلف عنها من حيث مصادرها وموضوعها، فنحن نسمع بين آن وآخر عن كتب تصدر ومقالات تدبج، وأشرطة توزع، تتحدث عن إرهاصات أخروية أقرب ـ ربما ـ مما يتحدث عنه أهل الكتاب، فيما يتعلق بقرب القيامة وقرب مجيء المهدي، بل ووجوده بالفعل حياً بيننا!!.
ولست بصدد مناقشة تلك الأقوال الآن، ولكن أنصح نصيحة مشفق حريص: ألا نصنع بأنفسنا أجواءً تتفرخ فيها أفكار الانتظار أو ادعاءات المهدوية أو انتحالات السفيانية والعيسوية، فقد حذر رسول الله ? من (مسحاء كذبة)، فحذار أن نستخرج من بيننا مسيحاً كذاباً، أو مخلِّصاً دجالاً فليس لمثل هذه الدعوات من مناخ أنسب من المناخ الذي يمكن أن تشيعه انعكاسات الحمى الألفية في أوساط المسلمين.
ثاني عشر: لله ـ تعالى ـ أحكام شرعية، وأحكام قدرية، ونحن متعبدون بالأحكام الشرعية من تكليفات وأوامر ونواه، أما الأحكام القدرية التي تدخل فيها المغيبات المستقبلية، فنحن غير متعبدين إلا بالتصديق بها، ثم الامتثال لأحكام الله الشرعية فيها إذا جاء أوانها، ومع ذلك فإن الله ـ تعالى ـ لم يتعبدنا بالانتظار حتى تقع الأقدار خيرها أو شرها، ولكن تعبدنا بالإعداد والاستعداد لملاقاة أي خطر قائم أو قادم يتهدد ديننا وأمتنا ودعوتنا.
وأخيراً: هذا سؤال يتردد في القلب والعقل .. إلى متى نظل نمثل نحن (رد الفعل) ويقوم أعداء الأمة بـ (الفعل)؟ أما آن لنا أن ننتقل من دائرة ردود الأفعال إلى دائرة الأفعال؟ سؤال ينتظر الإجابة في زمن الانتظار!!