وهكذا نجد أن اعتبار هذه الشريعة إجماع المجتهدين من الأمة حجة في استنباط الأحكام، ومصدراً رئيسياً من مصادر التشريع، قد أكسب هذه الشريعة مرونة واتساعاً، يلازمانها ما قامت السموات والأرض، وما زال على الأرض أناس يتعاملون وعلماء مجتهدون يجتمعون ويجمعون، وما زالت حوادث تتجدد، ووقائع تتشعب، فالإجماع يمدنا بأحكام شرعية مستمدة من شرع الله تعالى ـ تصلح للزمن وتتناسب مع المكان ـ في كل تصرف وشأن، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
على أن الأمر قد يكون فيه حرج وعسر، لو كان لزاماً على الأمة ـ في كل حادثة تجد ـ أو على كل قاض ومفت ـ تعرض له فتوى أو قضاء لا يجد لها نصاً في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ـ أن يجمع لذلك علماء الأمة، أو يحصل على رأيهم فيها. ولو كان الأمر كذلك لارتبكت الأمة في شؤونها وفاتها الكثير من المنافع، وربما سارت في تصرفاتها على غير هدى من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وكان أمرها فرطاً. ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون هذه الشريعة أكثر واقعية عما يتصور في كل تشريع لم يكن نابعاً من فيض الله الحكيم، فأرشدت إلى كل ما فيه صلاح ونهت عن كل ما من شأنه الفساد، وكان مما أرشدت إليه ودلت عليه: أن يلجأ المجتهد المتبصرـ في فتواه وقضائه ـ إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه ?، فإن لم يجد ضالته، عمد إلى ما أجمع عليه من سبقه من العلماء المجتهدين والأئمة المتقين، فإن لم يجد لم يقف مكتوف الأيدي حائراً تائهاً يترك الناس في ضياع، بل يعمل فكره ويشحذ ذهنه ويسبر أعماق النصوص والأحكام ليتعرف فيها على العلل والمناسبات، فإذا تجلى له الأمر ألحق الحادثة التي بين يديه بأقربها شبهاً، وأكثرها مناسبة مما نص على حكمه أو انعقد عليه الإجماع: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} [ص: 29].
وهكذا كان القياس مصدراً رئيسياً وأصلاً من أصول التشريع الإسلامي، يستمد منه الفقيه أحكام الحوادث والوقائع، استرشاداً بقول الله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2].
وإذا كان القياس مصدراً من مصادر التشريع، فأجدر به من مصدر يضفي على هذا التشريع مرونة ما بعدها مرونة، ويكسبه صلاحية ـ لمختلف أطوار الحياة، وتقلب الحقب والأجيال، مع بعد القارات وتنائي الديار، لا تدانيها صلاحية، فما أكثر الأحكام المنصوص عليها والمجمع فيها، والتي يتمكن المجتهد أن ينظر فيها ويلحق بها ويقيس عليها، وليس من مغالاة القول: إنه ما من حادثة قائمة أو يمكن أن تحدث إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ـ ورغم ما نجده من كثرة الاختراع وتطور الحياة وتعقد المعاملات ـ إلا ويستطيع العلماء العاملون والفقهاء الموفقون: أن يجدوا حادثة منصوصاً أو مجمعاً على حكمها، يمكنهم بأدنى جهد أن يقيسوها عليها ويلحقوها بها في الحكم، ثم تأخذ حكمها شرعياً، وتكون من جزئيات التشريع الإسلامي بعد أن كانت خارجة عنه.
وهكذا نجد أن الشريعة الإسلامية بمصادرها الأربع هذه ـ والمتفق على اعتبارهاـ مستغنية عما سواها، كفيلة بسد حاجات الزمن وتطورات العصر مما يحتاجه إلى تشريع وتقنين.