[وأما النظر فلأن العدل من ظهر عليه من القرائن ما يدل على الديانة والأمانة دلالة ظنية إذ لا طريق إلى العلم بالبواطن وهذا ظاهر في الصحابة فإنهم كما قال المنصور بالله لولا ثقل موازينهم في الشرف والدين ما اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالوا عن ألف دين الآباء والأتراب والقرباء إلى أمر شاق على القلوب ثقيل على النفوس لا سيما وهم في ذلك الزمان أهل الأنفة العظيمة والحمية الكبيرة يرون أن يقتل جميعهم وتستأصل شأفتهم حذرا من أمر عار يلم بساحتهم أو ينسب إلى قرابتهم ولا أعظم عارا عليهم من الاعتراف بضلال الآباء وكفرهم وتفضيل الأنعام السائمة عليهم فلولا صدقهم في الإسلام ومعرفتهم لصدق الرسول عليه السلام ما لانت عرائكهم لذلك ولا سلكوا في مذللات المسالك ومما يدل على صحة ذلك ويوضحه أن أكثرهم تساهلا في أمر الدين من يتجاسر على الإقدام على الكبائر لاسيما معصية الزنا وقد علمنا أن جماعة من أهل الإسلام في ذلك العصر من رجال ونساء وقعوا في ذلك فهم فيما يظهر لنا أكثر أهل الإسلام تساهلا في الوقوع في المعاصي وذلك دليل خفة الأمانة ونقصان الديانة لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح والخوف العظيم ومن يضرب بصلاحه المثل ويتقرب بحبه إلى الله عز وجل وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين وليس يفعل هذا إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى واليقين وذلك كثير في أخبارهم مشهور الوقوع في زمانهم من ذلك حديث المرأة التي زنت فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرة بذنبها سائلة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الحد عليها فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يستثبت في ذلك فقالت يا رسول الله إني حبلى به فأمر بها أن تمهل حتى تضع فلما وضعت جاءت بالمولود وقالت يا رسول الله هو هذا قد ولدته فقال أرضعيه حتى يتم رضاعه فأرضعته حتى أتمت مدة الرضاع ثم جاءت به في يده كسرة من خبز فقالت يا رسول الله هو هذا يأكل الخبز فأمر بها فرجمت (رواه الحافظ ابن كثير في إرشاده) فانظر إلى عزم هذه الصحابية رضي الله عنها على أصعب قتلة على النفوس وأوجع ميتة للقلوب وبقاء عزمها على ذلك هذه المدة الطويلة ومطالبتها في ذلك غير مكرهة ولا متوانية وهذا أيضا وهي من النساء الموصوفات بنقصان العقول والأديان فكيف برجالهم رضي الله عنهم من ذلك حديث الرجل الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه سرق فأمر بقطع يده فلما قطعت قال الحمد لله الذي خلصني منك أردت أن تدخليني النار أو كما قال وحديث المجامع في رمضان وحديث ماعز بطوله وحديث الذي قال إني أتيت امرأة فلم أترك شيئا مما يفعله الرجال بالنساء إلا أتيته إلا أني لم أجامعها وغير ذلك مما لا يحضرني الآن الإشارة إليه
فأخبرني على الإنصاف من في زماننا وقبل زماننا من أهل الديانة وقد سار إلى الموت نشيطا وأتي إلى ولاة الأمر مقرا بذنبه مشتاقا إلى لقاء ربه باذلا في رضا الله لروحه ممكنا للولاة أو القضاة من الحكم بقتله وهذه الأشياء تنبه الغافل وتقوي بصيرة العاقل وإلا ففي قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} كفاية وغنية مع ما عضدها من شهادة المصطفى عليه السلام بأنهم خير القرون وبأن غيرهم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد ولا نصيفه إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنيفة] انتهى كلامه.
ونحن نقول إذا كان هذا فعل من ضعف إيمانه من عامة الصحابة فوقع في المعاصي بأن سار إلى الموت نشيطا مقبلا طاعة لله تعالى وهو ما لم يفعله أتقى أهل زماننا فكيف بإيمان من لم يكن من عامتهم بل من كبارهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فكيف بإيمان أفضل الصحابة وهم الخلفاء فهل يبقى بعد ذلك عذر لأحد أن يتنكر لفضلهم فيسبهم ويلعنهم ممن استدرجه الشيطان بشراكه فاتبع هواه بغير هدى من الله تعالى {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا}.
وختاما أسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل الذي أردت الذود به أولا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بذلوا أرواحهم كي يوصلوا إلينا هذا الدين فجزاهم الله عنا كل خير
وثانيا عن مذهب الحق مذهب الكتاب والسنة وأهله أهل السنة والجماعة وأسأله سبحانه أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.