فالقرآن العظيم اشتمل على جميع أنواع العلوم ونبه على عجائب المخلوقات وملكوت السماوات وما قبل خلق البشر وما بعده وقصص الرسل وأممهم ودخول الجنة والنار وما فيهما، ومراحل الإنسان وأطواره، ولو تتبعنا ذلك بالتفصيل لوجدنا كل شيء مبينا في القرآن بنوع من أنواع البيان المعروفة.
وذلك إما بالنص أو بالإيماء والتنبيه أو بالمهفوم أو بغير ذلك من أنواع البيان التي تضمنها كتابه والسنة النبوية كلها دخلت في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والحلال كله دخل في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}. والحرام كله دخل في قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}.
وعلى كل حال فالقرآن العظيم أمر المسلم بكل خير ونهاه عن كل شر فعلمه كيف يعامل أمه وأباه وكيف يعامل أعداءه وكيف يبيع ويشتري وكيف يكون الإنفاق وكيفية الأكل والشرب والتوسط في ذلك حتى أنه علمه كيف يمشي في الطريق وعلمه الصدق والشجاعة وكيف تنظم الجيوش وكيف المعاملة مع الرب جل وعلا. وكيف تكون المحاورة والإقناع وطرق ذلك بأحسن ما يكون.
قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} ثم أتبع حق الله بحق الوالدين لأنهما السبب بعد الله في إيجاده. ثم قال: {وَالَّذِينَ إذا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}. وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. وقال في حق معاملة الأعداء: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}. وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. وبين أن خطره على الأمة جمعاء، وأذن بالحرب لمتعاطيه فقال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ} الآية. أي ترك الربا، وقال في حق المسلم {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ثم علل لذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} الآية. إلى غير ذلك من الآيات المبينة لكل ما يصلح المجتمع ويدعو لرقيه في الدنيا والآخرة.
وعلمنا أن الإقناع بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة لا بالقوة والقهر. قال تعالى: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ثم بين أنه المعبود هو وحده المستحق للعبادة بالأوصاف التي وصف بها نفسه بعدها، علما بأن هذا الأمر أول أمر في القرآن الكريم، وأتبع ذلك الأمر بعد البراهين الساطعة على ألوهيته بالنهي عن الإشراك به، وأتى بين هذين الإنشاءين أعني الأمر والنهي بالبراهين الدالة على قدرته. ثم قال جل وعلا {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا} الآية. أي إن كنتم مكذبين فيما جئتكم به على لسان نبيي فأتوا بمثله، ولم يقل: لهم إن لم تؤمنوا به فأقتلكم أو فأعذبكم بكذا، ولكن قال جل وعلا: فإن عجزتم عن الإتيان بمثله مع فصاحتكم وبلاغتكم وقدرتكم على التفنن في جميع الأساليب فأنتم ملوك ذلك.
فاعلموا أن الأمر ليس كما زعمتم وأنه من عند خالق هذا الكون وقد أوعد المكذب بالنار فاتقوا النار وصدقوا بهذا القرآن والنبي الكريم فلم يبق لكم عذر بعد هذا.