وكأن روح الإلحاد في بني آدم من قديم: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا}، فالمعري وغيره ممن كان يطعن فيهم كانوا يعترضون على شرع الله تعالى ومن جملة ما ذكر عن أبي العلاء المعري قوله:

يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار

وللعلماء في هذا الاعتراض أجوبة عديدة منها:

أن هذا الاعتراض ملحد كما قدمنا من أن الشرع توقيفي.

ومنها ما رد به القاضي عبد الوهاب:

عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

ومن المناسب أن تلك اليد لما احتملت رذيلة السرقة وإطلاق ذلك عليها في شيء حقير كثمن المجن كان من الواضح المعقول أن تؤخذ في ذلك الشيء القليل الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى.

أما القوانين الوضعية فلم تستطع أن تصل إلى هذه العقوبة وهي في عقوبتها على السرقة بين إفراط وتفريط، لذلك لم تستطع مكافحة جريمة السرقة لعدم اتجاه العقوبة وبعدها عن الجريمة.

فجرائم السرقة في البلاد التي هي صانعة المدنية الحديثة لا تكاد تحصى، مع أن هناك دولا أقل رقيا ومع ذلك فقد حققت بعقوبة القطع في جريمة السرقة انعدام وجود تلك الجريمة إلا في النادر.

والمال شقيق النفس وبه قوام الحياة الدنيا فإذا ما تركت أيدي المجرمين تبطش به وتعبث لأصبح آلاف الأيدي عاطلا بدون مأوى وبدون مأكل وبدون مشرب، فرحمة بأولئك جعل على تلك الأيدي المحاولة شل حركة آلاف الأيدي القطع بشروط مخصوصة في المال والمجرم - وتطهيرا له من أدناس ذلك الذنب العظيم.

فظهر بذلك أن القطع في السرقة عقوبة ليست مجحفة، والله بين ذلك في كتابه العزيز بعد أمرنا بالقطع في السرقة، فقال: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا} أي هذا القطع هو الذي يناسب ذلك الجرم الذي هو السرقة.

وليس بعد بيان الله من بيان: {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الآية.

وبعد الكلام على عقوبة السرقة وتبيين كونها مناسبة لجرم صاحبها، أنتقل إلى عقوبة الزنا.

والزاني إما أن يكون بكرا أو ثيبا ولكل عقوبته المناسبة لجرمه وقد قدمنا ذلك في الفصل الأول من الباب الثاني فلا داعي لتفصيله هنا. وإنما المقصود هو تبيين اعتراض الملحدين على هذه العقوبة ورده.

فالملحدون يقولون: إن القتل بالرجم وحشي لا يناسب الحكمة التشريعية ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي يعامل بها الإنسان، وذلك لقصور إدراكهم عن فهم حكمه البالغة في تشريعه جل وعلا.

لكون الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى لأن الزاني حين ما يعمل جريمته يكون بذلك ارتكب أكبر جريمة عرفتها الإنسان، بهتك الأعراض وتقذير الحرمات والسعي في ضياع أنساب المجتمع بأسره، ومن كان كذلك نجس قذر لا يصلح للمصاحبة، فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بالقتل لدفع شره البالغ غاية الخبث والخسة وشر أمثاله عن المجتمع وتطهيره من تلك القاذورة التي ارتكبها.

وجعل جل وعلا قتله أفظع قتل، لأن جريمته أفظع جريمة، والجزاء من جنس العمل.

وتشريع الحكيم الخبير جل وعلا اشتمل على جميع الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح والجري على محاسن العادات، ولا شك أن من أقوم الطرق وأعدلها معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاء وفاقا.

بخلاف القوانين الوضعية فإنها لم تراع هذه القاعدة بل أهملتها في كثير من الجرائم تأثيرا لرغبات المجتمع الفاسد، وتحقيقا لشهواته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015