وجدير بالذكر إن المخالفة والتفرد على الصور المذكورة هما المقصودان في مفاهيم الشاذ والمنكر، وليس كل أنواع المخالفة والتفرد داخلة فيها، فإن منها ما هو ناتج عن كثرة الضبط والإتقان، وهذا النوع من المخالفة والتفرد لا يكون شاذاً ولا منكراً ولا مردوداً، بل يكون صحيحاً مقبولاً، وإن كان ظاهر القول الذي يربط الشذوذ بهما يوهم الإطلاق فيها فإن الأمثلة التي ساقوها وقرائن أخرى تؤكد ذلك الذي ذكرناه.

في ظل هذه الحقائق العلمية الملموسة فإن الحكم على الحديث تصحيحاً وتضعيفاً، قبولاً ورداً، لم يقع من المحدثين النقاد بالاعتماد على صفة الراوي، بغض النظر عن المتون والأمور المحيطة بها، وإنما يقع ذلك بناء على معرفة موافقة راويه للواقع، أو مخالفته له، أو تفرده بما لا أصل له، حتى ولو كان الراوي إماماً جليلاً.

وإن كانت الركيزة الأولى الأساسية للحكم على الحديث هي معرفة موافقة راويه للواقع أو مخالفته له أو تفرده بما لا أصل له، فإن الناقد ينبغي أن تتوفر فيه من الأمور ما يؤهله لمعرفتها، من أهمها الفقه وحفظ الأحاديث وضبطها واستيعاب طرقها ومعرفة رواتها، وإلا فإنه لا يعرف الواقع، ولهذا فإن النقاد كانوا يهتمون بشقي علوم الحديث، وهما: الجانب الفقهي وجميع ملابساته والجانب النقدي وسائر ما يتصل به، كما سبق تفصيله.

ويلاحظ مما ذكرنا: أن ما يتجه إليه اهتمام الناقد في نقده بداية هو ما ذكره الراوي عن شيخه: هل حدث شيخه بهذا السند هذا الحديث؟ أو حدث بسند آخر؟ أو حدث بهذا السند متناً آخر؟ أو لم يحدث به أصلاً؟.

والنقد الذي يرتكز أساساً على هذه المحاور لا يتم في حالة ما إذا فصل الإسناد عن المتن، وغض النظر عنه، إذ الإسناد لا يتحقق له وجود إلا باعتبار متنه، وبالتالي لا يستحق أي حكم، إلا إذا صار النظر شكلياً، كأن يدرس تراجم رواه الإسناد، وإمكانية اللقاء بينهم، دون ربطه بالواقع الجزئي الذي بصدده هذا الإسناد، فعندئذ يصبح الحكم الذي صدر عن الباحث حكماً عاماً لا علاقة بما وقع، وهذه دراسة المعاصرين خاصة والمتأخرين عامة إلا المحققين.

وإذا صدر عن الناقد حكم بأن الإسناد صحيح فمعناه أن كل راوٍ من السند صادق ومصيب في قوله، وعزوه لمن فوقه، وبذلك يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، ولا يصح القول أبداً إن السند صحيح والمتن ضعيف، أو موضوع، لأن الخلل الوارد في المتن إنما هو من جهة أحد رواته، فيصبح تصحيح الإسناد حكماً مناقضاً للواقع الذي يقضي بوجود خاطئ أو كاذب في ذلك الإسناد، وإلا فإن الخطب جلل لما يلزم منه نسبة الخطأ أو الكذب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما شاع لدى المتأخرين من ذلك الإطلاق فإنه لا يعدو كون الرواة ثقات فقط، لا أكثر ولا أقل.

وصفوة القول فإن نقد المحدثين في المرحلة الأولى نقد علمي متكامل بجميع عناصره، لا يفصل الإسناد عن المتن، حيث يقوم أساساً على المعرفة الحديثية والفقهية، ومن ثم أصبحت علوم الحديث تحوي هذين الجانبين دون فكاك.

إضافة إلى قضايا أخرى تطرقنا إليها نظراً لأهميتها البالغة، مثل مسألة تدوين السنة، ومحاكمة الأحاديث إلى القرآن بغرض معرفة صحتها وكذبها، وضرورة التفريق بين الغريب الشاذ وخبر الآحاد، وسر إهمال النقد لبيان الوضع في الأحاديث بياناً مفصلاً، في حين أنهم نشطوا في كشف عللها، وعناية المحدثين النقاد بنقد المتون، ورد الشبهات حولها، وغيرها من الأمور التي وجدناها بحاجة إلى إبراز الواقع فيها.

كتبت لك ـ يا أخي العزيز ـ هذا البحث، بفضل من الله سبحانه وتعالى، ولا أريد به إلا أن أرسم لك منهج المحدثين النقاد، الذي تسعى إليه من وراء دراسة مصطلح الحديث، وأن أحملك على أن تحذو حذوهم في نقد الأحاديث. والله الموفق.

رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً. والحمد لله رب العالمين.

ـ تم بعون الله ولله الحمد والشكرـ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015