ومفهوم الفطرة عندما يتحرر ويتضح للباحثين سوف يكتشفون أنه مفهوم شمولي كاف يفي تفسير السلوك لا يحتاجون معه إلى نظريات أخرى. والحقائق النفسية والمفاهيم النفسية الجزئية كمفهوم التعزيز يمكن أن تشرح شيئاً من طبيعة النفس البشرية، ويمكن أن توضح لنا بعض جوانب الفطرة، ولكن النظريات الشمولية كنظرية التحليل النفسي لا يمكن أن تتواءم مع مفهوم الفطرة، لأن مسلّمات النظرية وأطرها الفلسفية تتعارض مع حقائق الفطرة ومسلّماتها، ولهذا المشتغل بالتأصيل يرتكب خطأ فادحاً إذا حاول أن يجمع بين نظرية شمولية ومفهوم الفطرة.
ومفهوم الفطرة عالجته في الفصلين الثاني والثالث.
خامساً: التراث:
التراث النفسي في الحضارة الإسلامية من حيث هو ما خلفه العلماء في هذه الحضارة من تراث مكتوب عن النفس البشرية مصدر في دراسة النفس، ولكنه ليس معصوماً، وإنما فيه الصواب والخطأ، وفيه ما يتفق مع الإسلام وما يتعارض معه، كالتراث الذي مصدره الفلسفة اليونانية. ولهذا فنحن بحاجة إلى تصور نميز من خلاله التراث المقبول من المردود، وهذا هو ما حاولت تقديمه في الفصل الأخير من هذا الكتاب، حيث قسمت التراث إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة هي الأثري والصوفي والفلسفي، ودعوت إلى النظر في التراث من خلال هذه الاتجاهات الثلاثة وليس باعتباره كتلة واحدة. وبينت أن لكل اتجاه من هذه الاتجاهات تصوره عن النفس البشرية ومنهجه في النظر إليها ودراستها.
والذي أرجوه بعد ذلك هو وضع ضوابط للمقبول من التراث النفسي، إذ ليس من العقل في شيء أن نستبدل الضلال العربي أو الإغريقي بالضلال الأوربي الغربي، فالضلال كله ضلال مهما كان مصدره.
ومن الضوابط التي يمكن أن تذكر في هذا الصدد مثلاً أن المفاهيم التراثية النفسية تقبل إذا كان مصدرها القرآن والسنة، أو كانت تستند إلى الخبرة والممارسة الطبية. ومن الملاحظ في دراساتنا التراثية الحديثة أن البحث اتجه إلى العناية بالتراث ذي الأصول الفلسفية الإغريقية فقط تقريباً، وأما التراث الذي كان مصدره القرآن والسنة وهو ما نجده عند الاتجاه الأثري كانت العناية به ضعيفة جداً، وكذلك تراث الأطباء النفسي لم يكن له نصيب واف من دراساتنا. والذين درسوا ابن سينا مثلاً درسوا أفكاره الفلسفية ولم يدرسوا ممارساته الطبية النفسية، ويستثنى من ذلك دراسة عبدالفتاح العيسوي (1992) فقد حاول دراسة هذا الجانب المغفول عنه.