لقد دمرت أفكار المرجئة الخبيثة عقائد كثير من الناس قديماً وحديثاً، وأفسدت عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم. حيث سقطت قيمة العمل الظاهر من حسن هؤلاء الناس وشعورهم الديني؛ وتجرؤوا على المعاصي؛ كما انهارت كلية الشريعة وقاعدتها الكبرى في تلازم الظاهر بالباطن؛ واختلطت الظواهر، فأفسق الخلق وأفحشهم خلقاً وسلوكاً قد يكون – عند هؤلاء المرجئة أفضل من أزهد الناس وأكثرهم ورعاً وعبادة؛ فالجميع مؤمنون، والظواهر شيء، والبواطن شيء آخر! ولكن أخبث ما أنتجته أفكار المرجئة في واقعنا المعاصر أن استقر عند كثير من الناس أن الإيمان هو التصديق وأن الكفر هو التكذيب فقط! فاختلت الموازين التي يزن بها هؤلاء الناس واقعهم تجاه دينهم؛ وتحت زعم أنهم مصدقون وغير مكذبين لله ورسوله، وطالما أن الإيمان هو مجرد التصديق، وتحت ضغط الشهوات ووطأتها، فقدت القلوب المحبة الواجبة لله ورسوله، والتعظيم الواجب لهما، والانقياد والطاعة لحكمهما؛ وامتلأت القلوب بحب الأغيار وتعظيمها والانقياد والطاعة لها؛ ونما النفاق وترعرع حتى كانت الحال التي قال الله تعالى فيها: {هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان} [آل عمران: 167]. واختلت كذلك الموازين التي يزن بها هؤلاء الناس الواقع من حولهم؛ فأخطأوا مرة أخرى في حق أنفسهم ودينهم؛ حيث لم ينزلوا أحكام الله على واقعها الصحيح؛ فضلوا في التعامل مع واقع كثير من الأحوال وفق منهج الله وشرعه؛ فطالما أن واقع هذه الأحوال المحيطة لم يعلن التكذيب لله ورسوله "بصريح اللفظ"، وطالما أن الإيمان هو مجرد التصديق، وأن الكفر هو فقط التكذيب؛ فإن هذا الواقع عندهم واقع مؤمن بالله ورسوله حتى وإن فسق وانسلخ عن حكم الله ورسوله، أو والى أعداء الله ورسوله أو قاتل أولياء الله ورسوله؛ أو هزأ بدين الله وسخر من سنة رسوله! وكما ساوى الخوارج والمعتزلة بين جميع أنواع المعاصي سواء تلك التي تصيب الإيمان في أصله أو تلك التي تصيبه في فروعه وشعبه، واعتبروها جميعها مخرجة من الملة؛ ساوى هؤلاء المرجئة المعاصرون بين جميع المعاصي أيضاً ولكن اعتبروها كلها غير مخرجة من الملة حتى تلك التي تنقض الإيمان في أصله، إلا أن يكون صاحبها مستحلاً لها! ولم يفسروا الاستحلال بشيء إلا بالتكذيب! فالمرء عندهم لو تلبس بشرك أكبر أو كفر أكبر مخرج من الملة بيّن جلي لنا فيه من الله برهان؛ ولكنه لم يعلن التكذيب بلسانه لا يكفر – وهذا ما لم يقل به حتى أسلافهم من الجهمية الأوائل الذين كانوا يقولون بكفره وخروجه من الملة من الظاهر ولكنهم يتوقفون في حكمه في الباطن أي عند الله على الحقيقة – بل وذهب بعض هؤلاء المرجئة المعاصرين إلى أنه حتى لو أعلن الكفر أو التكذيب أو الاستهزاء بلسانه، فقد يكون معذوراً بجهل أو تأويل أو خطأ أو سوء تربية! أو عدم تحقق الشروط وانتفاء الموانع؛ إلى آخر هذه القائمة من المماحكات السخيفة التي يخفون وراءها حقيقة تجهمهم وتفوقهم حتى على أسلافهم من الجهمية الأول! تلك المماحكات التي وصلوا بها إلى عدم كفر أحد أو تكفيره على التعيين ممن تكلم بالشهادتين في هذه الحياة الدنيا!
نسأل الله الإخلاص والإصابة .. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه؛ وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .. اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين