وهذا هو المنهج الصحيح المعروف عن أئمة أهل السنة والجماعة في مثل هذه المواقف.

قال الإمام ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: (لا يزال الناس بخير ما كان فيهم الحق وتبيين أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التي يخطئ من خالفها، وإن كان معذوراً مجتهداً مغفوراً له، وهذا مما خصّ الله به هذه الأمة لحفظ دينها الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا تجتمع على ضلالة، بخلاف الأمم السالفة.

فههنا أمران: (أحداهما): أن من خالف أمر الرسول في شيءٍ خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعته أوامره فإنه مغفور له، لا ينقص درجته بذلك. و (الثاني): أنه لا يمنعنا تعظيمه ومحبته من تبيين مخالفة قوله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيحة الأمة بتبيين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم أنّ قوله مخالفٌ لأمر الرسول، فإنه يحبّ من يبين للأمة ذلك، ويُرشدهم إلى أمر الرسول، ويردّهم عن قوله في نفسه، وهذا النكتة تخفى على كثير من الجهال لأسباب، وظنّهم أن الرد على معظم من عالم وصالح تنقّص به، وليس كذلك، وبسبب الغفلة عن ذلك تبدّل دين أهل الكتاب، فإنّهم اتبعوا زلات علمائهم، وأعرضوا عما جاءت به أنبياؤهم، حتى تبدل دينهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) (?).

وقال الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر (?) -رحمه الله-: (واعلم -رحمك الله- أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صادق، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد يكون منه الهفوة والزلّة، وهو فيها معذورٌ، بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يغمط مكانه وإمامته ومنْزلته في قلوب المسلمين) (?).

قلت: في كلام هذين العالمين الفاضلين من علماء أهل السنة والجماعة بلا امتراء، في كلامهما بيان للمنهج الصحيح الذي ينبغي السير عليه، ولئن كان كلاهما ينطبق على أحد فإن ممن ينطبق عليه الحافظ ابن حجر كما لا يخفى لكل ذي بصيرة، وياليت بعض طلبة العلم في هذا العصر يعون مثل هذه الكلمات النيّرة، فيلزمون جادة الصواب مع العلماء الأجلاء، فإن الله تعالى لم يكتب العصمة لأحدٍ غير أنبيائه، وليس على وجه الأرض كتابٌ خالٍ من خطأٍ غير كتاب الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (?)، وإذا كان كُل عالمٍ وقعت منه زلة استحق الطعن لم يبق لنا عالم، وإذا كان كل كتاب عثر فيه على خطأ تُرك الاستفادة منه لم يسلم لنا كتاب بشرٍ أبداً.

وإنما كان منهج السلف النهي عن كتب البدع التي وضعت لتقرير الباطل، والدفاع عنه، من كتب أهل الكلام وأهل التصوف وما شاكلها، وأما الكتب التي تقرّر الحق وتردّ الباطل، ومع هذا وُجِدَت فيها أشياء تخالف الحق اجتهاداً لا قصداً، فالصواب أنّه مقبولٌ مع التنبيه على ما فيه من خلاف الحق، وقد تمثل هذا المنهج واضحاً فيما فعله العلامة السلفي في هذا العصر سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز -حفظه الله- حيث قام بإعادة طبع كتاب (فتح الباري) مع التعليق على بعض المواضع التي تحتاج إلى تعليق مما جانب فيه الحافظ الصواب، غير أنّ كثرة المشاغل منعته من إكمال هذا المشروع المهم، وحبذا لو يقوم بعض العلماء الأفاضل بإتمام ذلك حتى تعم الفائدة إن شاء الله تعالى.

وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يُلهمنا رشدنا، ويوفقنا لاتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسير على منهج سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وأن يجنبنا البدع والأهواء، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، إنه تعالى سميعٌ مجيب، غفور رحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015