فإن قلت: فقد قال بعض المحققين: الناس ثلاثة، رجل شغله معاده عن معاشه، فهو من الفائزين، ورجل شغله معاشه عن معاده، فهو من الهالكين، ورجل مشتغل بهما، وذلك درجة المخاطرين، والفائز أحسن حالاً من المخاطر، فاعلم أن فيه سراً، وهو أن المنازل الرفيعة لا تنال إلا باقتحام الأخطار. وإنما هذا الكلام ذكر تحذيراً وتنبيهاً على خطر الخلافة لله تعالى في أمر عباده، حتى لا يترشح لها من لا يقدر عليها. وقد حكي أن بعض أولاد الملوك العادلة عظمت رتبته في العلم والحكمة، فاعتزل الناس وزهد في الدنيا، فكتب إليه بعض الملوك: قد اعتزلت ما نحن فيه، فإن علمت إن ما اخترته أفضل، فعرفنا لنذر ما نحن فيه، ولا تحسبني أقبل منك قولاً بلا حجة. فكتب إليه: إعلم إنا عبيد لرب رحيم، بعثنا إلى حرب عدو، وعرفنا أن المقصد من ذلك قهره أو السلامة منه. فلما قربنا من الزحف، صرنا ثلاثة أقسام: متخوف طلب السلامة منه، فاعتزل عنه، فالتزم ترك الملامة وإن لم يكتسب المحمدة، ومتهور قدم على غير بصيرة، فجرحه العدو وقهره واستجلب بذلك سخط ربه،