ƒـ[هل ما زال باب الاجتهاد مفتوحاً؟]ـ
^الحمد لله
" الاجتهاد لغة: مأخوذ من الجَهد، وهو المشقة، أو الوسع، أو الطاقة.
وأما الاجتهاد عند علماء الفقه، أو الأصول: فقد عرَّفوه بتعاريف متقاربة في ألفاظها، ومعانيها، وكلها تدور حول بذل الجَهد، والطاقة لمعرفة الحكم الشرعي من دليله.
وأدق ما قيل في تعريفه: "إن الاجتهاد هو: بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظنِّي" انتهى.
" الموسوعة الفقهية " (1 / 18، 19) .
ولم تزل الأمة تمر عليها النوازل، ويحتاج المسلمون إلى معرفة حكم الله تعالى فيها، ولا يتم ذلك إلا بالاجتهاد في النظر في الأدلة الشرعية لمعرفة الحكم الشرعي لها.
وقد اجتهد الصحابة رضي الله عنهم في معرفة الأحكام الشرعية، واجتهد التابعون ومن بعدهم العلماء ونُقلت إلينا اجتهاداتهم.
وفي أوائل القرن السادس ظهرت الدعوة إلى غلق باب الاجتهاد، وكان من أسباب ذلك: التعصب الذي وُجد في تلك العصور لمذاهب الأئمة، حتى قال البعض بالمنع من الخروج عن أقوال الأئمة المدونة في كتبهم وكتب أتباعهم، فأطلقوا تلك الدعوى (غلق باب الاجتهاد) حتى يقطعوا الطريق أمام من يجتهد في فهم النصوص ويستنبط أحكاماً تخالف ما قاله الأئمة السابقون.
ومما لا شك فيه أن هذه الدعوى غير صحيحة، فهناك الكثير والكثير من المسائل المستجدات يحتاج الناس إلى بيان حكم الله تعالى فيها، ولم يتكلم فيها الأئمة السابقون، لأنها لم تكن موجودة في زمنهم.
فالقول بإغلاق باب الاجتهاد يعني أن يبقى المسلمون لا يعلمون حكم الله في وقائع كثيرة ومسائل كثيرة.
ثم القائل بغلق باب الاجتهاد إنما قال هذا القول اجتهاداً منه، لم يقل به الأئمة السابقون، فكيف يسمح لنفسه بالاجتهاد ويجعل هذا آخر اجتهاد يُقبل من المسلمين، ويعلن إغلاق الباب بعد اجتهاده هذا؟!
وقد ذهب آخرون إلى هذه الدعوة "غلق باب الاجتهاد" لما رأوه من جراءة البعض على الأحكام الشرعية، وصاروا يتلاعبون بالنصوص والأحكام بدعوى الاجتهاد.
ولكن الموقف الصحيح تجاه هؤلاء: أن يُبين خطؤهم وتلاعبهم، ويُكشف تزويرهم وكذبهم، لا أن يُغلق باب الاجتهاد.
وقد وضع العلماء شروطاً وضوابط للاجتهاد حتى يكون مقبولاً، وهذه الشروط تضمن له ألا يتحول الاجتهاد إلى التلاعب بالنصوص، فليست المسألة فوضى، يقول مَنْ شاء ما شاء، بل هناك شروط للاجتهاد، يجب على المجتهد التقييد بها، وإلا كان اجتهاده نوعاً من التلاعب والعبث.
جاء في " الموسوعة الفقهية " (1 / 42، 43) :
"والذي نَدين الله عليه: أنه لا بد أن يكون في الأمة علماء متخصصون، على علمٍ بكتاب الله، وسنَّة رسوله، ومواطن الإجماع، وفتاوى الصحابة، والتابعين، ومن جاء بعدهم، كما ينبغي أن يكونوا على خبرة تامة باللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودونت بها السنَّة النبوية، وأن يكونوا قبل ذلك وبعد ذلك على الصراط المستقيم، لا يخشون في الله لومة لائم، لترجع إليهم الأمة فيما نزل بها من أحداث، وما يجدّ من نوازل، وألا يُفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فيلج فيه من لا يحسن قراءة آية من كتاب الله في المصحف، كما لا يُحسن أن يجمع بين أشتات الموضوع، ويرجح بعضها على بعض.
والذين أفتوا بإقفال باب الاجتهاد إنما نزعوا عن خوفٍ من أن يدَّعي الاجتهاد أمثال هؤلاء، وأن يفتري على الله الكذب، فيقولون هذا حلال وهذا حرام، من غير دليل ولا برهان، وإنما يقولون ذلك إرضاء للحكام، ولقد رأينا بعض من يدَّعي الاجتهاد يتوهم أن القول بكذا وكذا فيه ترضية لهؤلاء السادة، فيسبقونهم بالقول، ويعتمد هؤلاء الحكام على آراء هؤلاء المدعين، فقد رأينا في عصرنا هذا من أفتى بحل الربا الاستغلالي دون الاستهلاكي، بل منهم من قال بحله مطلقاً؛ لأن المصلحة - في زعمه - توجب الأخذ به، ومنهم مَن أفتى بجواز الإجهاض ابتغاء تحديد النل، لأن بعض الحكام يرى هذا الرأي، ويسميه " تنظيم الأسرة "، ومنهم من يرى أن إقامة الحدود لا تثبت إلا على من اعتاد الجريمة الموجبة للحدِّ، ومنهم ... ومنهم ... فأمثال هؤلاء هم الذين حملوا أهل الورع من العلماء على القول بإقفال باب الاجتهاد.
ولكنا نقول: إن القول بحرمة الاجتهاد وإقفال بابه جملة وتفصيلاً لا يتفق مع الشريعة نصّاً وروحاً، وإنما القولة الصحيحة هي إباحته، بل وجوبه على من توفرت فيه شروطه؛ لأن الأمَّة في حاجة إلى معرفة الأحكام الشرعية فيما جدَّ من أحداث لم تقع في العصور القديمة" انتهى.
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
هل يعتبر باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية مفتوحاً لكل إنسان، أو أن هناك شروطاً لا بد أن تتوفر في المجتهد؟ وهل يجوز لأي إنسان أن يفتي برأيه، دون معرفته بالدليل الواضح؟ فأجابوا:
"باب الاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية لا يزال مفتوحاً لمن كان أهلاً لذلك، بأن يكون عالماً بما يحتاجه في مسألته التي يجتهد فيها، من الآيات والأحاديث، قادراً على فهمهما، والاستدلال بهما على مطلوبه، وعالماً بدرجة ما يستدل به من الأحاديث، وبمواضع الإجماع في المسائل التي يبحثها حتى لا يخرج على إجماع المسلمين في حكمه فيها، عارفاً من اللغة العربية القدر الذي يتمكن به من فهم النصوص؛ ليتأتَّى له الاستدلال بها، والاستنباط منها، وليس للإنسان أن يقول في الدين برأيه، أو يُفتي الناس بغير علم، بل عليه أن يسترشد بالدليل الشرعي، ثم بأقوال أهل العلم، ونظرهم في الأدلة، وطريقتهم في الاستدلال بها، والاستنباط، ثم يتكلم، أو يفتي بما اقتنع به، ورضيه لنفسه ديناً" انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (5 / 17، 18) .
وذكر الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في كتابه "الأصول من علم الأصول" شروط الاجتهاد، فقال: "للاجتهاد شروط منها:
1- أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها.
2- أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه، كمعرفة الإسناد ورجاله، وغير ذلك.
3- أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
4- أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص، أو تقييد، أو نحوه حتى لا يحكم بما يخالف ذلك.
5- أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ، كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين، ونحو ذلك؛ ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات.
6- أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها" انتهى.
"الأصول من علم الأصول" (ص 85، 86) .
وبهذه الشروط يكون الاجتهاد منضبطاً، بعيداً عن التلاعب والهوى.
والله أعلم.
‰الإسلام سؤال وجواب