ƒـ[ما رأيكم فيمن يقول: إن التتار في هجومهم على المسلمين في بغداد دخلوا بعد ذلك دين الله، وحملوا الدين إلى رقاع من آسيا؟]ـ
^الحمد لله
أولا:
ينبه بعض المحققين من المؤرخين المعاصرين على أن الجيوش التي غزت بلاد المسلمين بقيادة " جنكيزخان " (ت 624هـ، 1227م) فأهلكت الحرث والنسل هي جيوش مغولية الأصل، وليست تتارية، وبين هذين الجنسين والعرقين فرق كبير، وسبب الخلط بينهما هو أن المغول بقيادة " جنكيزخان " بعد أن تغلبوا على التتار أرغموا بعضهم على الانضمام إلى جيوشهم ومشاركتهم في حروبهم قسرا، ومع قيام بعض الأسباب السياسية، وخاصة في العصور المتأخرة، اشتهر اسم " التتار " على تلك الجيوش، بل وأصبح وصف " التتار " علما على الهمجية والقسوة والوحشية، في تفاصيل معقدة من تاريخ شعوب تلك المنطقة، يمكن الاطلاع عليها في دراسة متقنة للدكتور: أبرار كريم الله، بعنوان " مَن هم التتار ".
ثانيا:
ديانة المغول الأولى عبادة الكواكب والسجود للشمس، وكانوا يرون أن (تَنْكَرَى) وهو الرب الذي يعلو السماء الزرقاء يبارك خطواتهم، وأنهم خلقوا ليحكموا العالم كله، ولهذا سمى زعيمهم نفسه بـ " جنكيز خان " أي: حاكم العالم. وكان يحكم بكتاب جمعه من شرائع مختلفة أسماه " الياسق " جعله القانون الذي يتحاكمون إليه.
غير أن المغول تأثروا بالبلاد التي غزوها – وهي بلاد واسعة تمتد من روسيا إلى أوروبا إلى بلاد الشام، فكان بعضهم يعتنق البوذية أو النصرانية، وآخرون يعتنقون الإسلام، وبعضهم يبقى على ما هو عليه.
أما اعتناقهم للإسلام فقد ذكره المؤرخون في كتبهم عن كثير من كبار قادتهم، أنهم انتسبوا للإسلام وأعلنوا انتماءهم له، غير أن كثيرا من محققي العلماء والفقهاء في عصرهم – ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - لم يقبلوا انتسابهم الاسمي إلى دين الإسلام، وطالبوهم بتحقيقه قولا وفعلا، وأفتوا بكفر فئاتهم التي لم تعمل بالإسلام في شعائرها الظاهرة، ومن أهمها الصلاة والأذان والحكم بالشريعة واعتقاد حرمة المسلم على المسلم.
ولكننا نذكر هنا ما ينقله المؤرخون، كي نعطي صورة " مجتزأة " للإسلام الذي حمله المغول.
جاء في دراسة الدكتور محمود السيد " التتار والمغول " (ص/150 – 154) :
" اعتنق " كورجوز " حاكم فارس من قبل " أجتاي خان " الديانة الإسلامية في أواخر عهده، بعد اعتناق بركة خان القبيلة الذهبية 654هـ - 666هـ للعقيدة الإسلامية في أول نصر حقيقي للإسلام، خاصة بعد أن تبعه السواد الأعظم من رعيته، حتى إن كل رجال جيوشه كانوا مسلمين وهم مغول، وتبع ذلك توثيق الروابط السياسية بين " بركة خان " و" بيبرس " سلطان مصر، وتحالف كلاهما ضد أسرة " هولاكو " في فارس.
ولما انتشر المغول في بلاد الصين، واعتنق بعض ملوكهم دين الإسلام في القرن السابع الهجري، وجعلوا مدينة " كاشغر "/غرب الصين عاصمة دولتهم الجديدة، أشير على ملك الصين المغولي " بركة خان " زعيم القبيلة الذهبية بمهادنة الخليفة المستعصم العباسي 640هـ.
ولما انتشر العنصر المغولي المسلم في الجبهة الغربية والشمالية من البلاد أخذ الصينيون الأصليون يتربصون بالمسلمين الدوائر، لا سيما عندما أعلن الأمير " يعقوب خان " 679هـ استقلاله بمملكة " كاشغر " في الشمال الغربي.
ولما أراد دعم الوحدة الإسلامية بايع السلطان العثماني بالخلافة، وانضوى تحت لوائه، ليكون له سندا، وطلب من دار الخلافة خبراء في الفنون الحربية، وسائر الصناعات الهندسية.
كما توطدت العلاقات بين " بركة خان " زعيم القبيلة الذهبية والظاهر " بيبرس "، بل وتحالف الفريقان ضد عدوهما المشترك الذي يمثل " هولاكو " في فارس، ولم يدخر وسعا " هولاكو "، فأسرع في البحث عن حلفاء يناصرونه على هؤلاء المسلمين، فتحالف مع زعماء الصليبيين في بلاد الشام، وقد شجعت " هولاكو " زوجته المسيحية على هذا الخط لتصرفه عن الديانة الإسلامية.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود، وأن نفوذ المسلمين بدأ يقوى على مر الزمن، دخل كثيرون من الحكام المغول في الإسلام.
فعندما تولى " غازان محمود " أحد إيلخانات الحكم في فارس 694 – 703هـ اعتنق الدين الإسلامي، وطالب رعاياه بالدخول في الإسلام، وأعلن أن دين الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.
ومنذ ذلك الحين بدأ الإسلام ينتشر انتشارا سريعا في دولة إيلخانات المغول في فارس.
واستقر المغول في البلاد الإسلامية، وتشبعوا بالروح الإسلامية تدريجيا، وأسسوا أسرة إيلخانات المغول في فارس، وتطبعوا بالطابع الإسلامي مع ارتباطهم بالشعب المغولي في شرق آسيا، مما أدى إلى سهولة تبادل المعلومات في مختلف نواحي الحياة بين شرق آسيا وغربها.
قوي نفوذ المسلمين بعد اعتناق " تكودار أحمد " الديانة الإسلامية 680هـ، وهو أحد أبناء هولاكو، عمل على جذب أتباعه إلى الإسلام، فقدم العطايا والمنح لكل من يعتنق الإسلام، ومنحهم ألقاب الشرف في دولته " انتهى باختصار.
ويقول الدكتور عبد الرحمن المحمود:
" مسألة تأثر التتار واعتناق بعضهم الإسلام تحتاج إلى تفصيل؛ لأن بعض التتار- من أبناء عم هولاكو- دخلوا في الإسلام قبل معركة عين جالوت ولذلك يمكن توضيح هذا الأمر كما يلي:
1- قسم جنكزخان مملكته بين أولاده، فكان من نصيب أحدهم وهو " جوشى " أكبر أبنائه؛ البلاد الواقعة بين نهر " أرتش " والسواحل الجنوبية لبحر قزوين، وكانت تلك البلاد تسمى القبشان، ويطلق عليها اسم القبيلة الذهبية - نسبة إلى خيام معسكراتها ذات اللون الذهبي - فلما مات " جوشى " خلفه أحد أولاده الذي تلقب بـ " خان " القبائل الذهبية ثم تولى بعده ولده، ثم تولى بعده " بركة خان " سنة 654 هـ، وكان بركة هذا مسلما، لذلك عمل على نشر الإسلام بين قبيلته وأتباعه، وأظهر شعائر الإسلام واتخذ المدارس وأكرم الفقهاء وكان يميل إلى المسلمين ميلا شديدا. وقد بدا هذا في ظاهرتين:
أولاهما: محاربته لابن عمه " هولاكو "، خاصة بعد استيلائه على بغداد وقتله
للخليفة، وقد ظهرت بينهما خصومات ومعارك. وقد أقلق موقفه وإسلامه الطاغية " هولاكو " الذي اتجه إلى محالفة المسيحين ضد " بركة " وحلفائه.
ثانيهما: دخوله ومن جاء بعده في حلف سلاطين المماليك، الظاهر " بيبرس "، والناصر " قلاوون " وغيرهما، وقد توطدت العلاقة بين هاتين الدولتين، خاصة بعد المصاهرة التي تمت بينهم، وتبادل الرسل والهدايا، ومواجهتهم لعدو مشترك هم التتار الكفار.
2- أما دولة المغول الكبرى في إيران وما جاورها والتي منها انطلقت جحافلهم لغزو العراق والشام، فقد حدث في عام 680 هـ أن أسلم أحد أولاد " هولاكو " وهو السلطان " تكودار بن هولاكو " الذي تسمى بعد إسلامه باسم أحمد، فصار اسمه: أحمد بن هولاكو، وقد أعلن إسلامه في منشور أصدره لما جلس على العرش ووجهه إلى أهل بغداد، كما أرسل رسالة إلى السلطان المنصور " قلاوون " يعلن اهتداءه إلى الإسلام، ويدعو إلى المصالحة ونبذ الحرب، ولم يتخل - كما هو واضح من رسالته هذه - عن افتخاره واستعلائه على سلطان المماليك، وقد رد عليه السلطان " قلاوون "، ثم تبودلت الرسائل بينهم، ولكن لم تكن العلاقات بينهم جيدة كما يظهر من صيغة الرسائل المتبادلة.
ومما يجدر ذكره أن السلطان أحمد دخل لوحده في الإسلام، ولم يستطع أن يفرضه على أتباعه ولا على أمراء المغول من حوله، فصار دخوله في الإسلام فرديا، وهذا ما يفسر سرعة القضاء عليه وقتله من جانب منافسيه من أمراء المغول الذين تآمروا عليه فقتلوه سنة 683 هـ
3- في سنة 693هـ تولى محمود قازان عرش المغول، ثم في سنة 694هـ دخل في الإسلام، يقول الذهبي عن هذه السنة:
" وفيها دخل ملك التتار غازان ابن أرغون في الإسلام، وتلفظ بالشهادتين بإشارة نائبه " نوروز "، ونثر الذهب واللؤلؤ على رأسه، وكان يوما مشهودا، ثم لقنه " نوروز " شيئا من القرآن، ودخل رمضان فصامه، وفشا الإسلام في التتار "
وقد أعلن غازان الإسلام دينا رسميا للدولة المغولية في إيران، كما غير المغول زيهم فلبسوا العمامة، كما أمر بتدمير الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، والأصنام البوذية، كما أمر أهل الذمة بأن يتميزوا بلباس خاص بهم. وهكذا اختلف إسلام قازان عن إسلام السلطان أحمد بأن إسلامه لم يكن فرديا وإنما حوله إلى دين رسمي للدولة.
لكن هذه الصورة التي قد تبدو جميلة سرعان ما تتغير حين يتابع المرء الأحداث التي تمت في عهد هذا السلطان، فقد هاجم وجيشه الشام مرات ودارت بينهم وبين أهل الشام – ومعه سلاطين مصر- معارك كبيرة، وانتصر المغول في أولاها وهزموا فيما تلاها، وقد عاث الجيش التتري فسادا في الأرض وفعلوا – كما قال ابن تيمية لقازان نفسه لما التقى به - ما لم يفعله أسلافه من حكام التتار الوثنيين. وقد بقيت الأمور على هذه الحال إلى ما بعد وفاة غازان سنة 703هـ
وقد كان التتار يقدسون دستورهم الذي وضعه لهم جنكيز خان، وكان يسمى " إلياسا " أو " اليساق " وكانوا يتحاكمون إليه، وبعد إسلامهم لم يتركوا التحاكم إلى هذا الدستور.
4- بعد وفاة قازان تولى من بعده أخوه " أولجاتيو خدابنده "، وصار اسمه محمد بن أرغون، وقد تولى عرش المغول سنة 703 هـ إلى سنة 716 هـ، وقد بدأ عهده بتحسين العلاقة مع سلطان المماليك، فأرسل إليه هدية وكتابا خاطب فيه السلطان بالأخوة " وسأله إخماد الفتن، وطلب الصلح، وقال في آخر كلامه: عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، فأجيب، وجهزت له الهدية، وأكرم رسوله ".
ولكن لم يكد يمضي سنة من توليه سلطة المغول حتى حدث تحول خطير عند محمد بن أرغون هذا، فقد اعتنق مذهب الشيعة، وعمل على نشره في الجهات الغربية من دولته، حتى إنه غير الخطة، وأسقط اسم الخلفاء سوى علي رضي الله عنه، وأظهر عداءه للمماليك السنيين، وطلب من النصارى أن يساعدوه ضدهم، ثم هاجم الشام سنة 712 هـ
ومما ينبغي ملاحظته أن تشيع هذا السلطان كان بتأثير من أحد كبار الرافضة - وهو ابن المطهر الحلي -، الذي صارت له منزلة كبيرة في عهده، وقد أقطعه عدة بلاد، ولعل نفوذ وشهرة هذا الرافضي- وهو صاحب كتاب منهاج الكرامة - دعا ابن تيمية رحمه الله إلى إفراد الرد على كتابه هذا بكتابه العظيم: " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ".
وقد استمر سلطان المغول على تشيعه حتى مات، ثم تولى ابنه أبو سعيد - وهو صغير - الذي لعب كثير ممن حوله به، ثم لما كبر مال إلى العدل وإقامة السنة وإعادة الخطبة بالترضي عن الشيخين ثم عثمان ثم علي وفرح الناس بذلك " انتهى باختصار يسير من "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (1/99-102) .
ثالثا:
ولعل الأقرب في الجواب عن السؤال أن يقال: لا شك أن تأثير الإسلام في النفوس تأثير بالغ عظيم، حتى في قلوب الغزاة الذين يتربصون بأمة الإسلام الدوائر، فلا يستبعد أن تتأثر فئات من المغول - نتيجة اختلاطهم بالمسلمين واطلاعهم على النور الذي أنزل إليهم – بدين الإسلام العظيم، ولكن الإنصاف يقضي أيضا بخطأ اختزال العوامل الكثيرة التي ينتشر الإسلام بسببها في عامل واحد هو " المغول ".
يؤكد ذلك أمران اثنان:
1- أن دين الإسلام كان قد انتشر في آسيا منذ القرون الهجرية الأولى على يد القائد المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي سنة (94هـ) ، حيث فتح " كاشغر " عاصمة الصين آنذاك، ثم توقفت الفتوحات العسكرية لتبدأ الفتوحات المعرفية بنشر الإسلام في جميع بقاع آسيا عن طريق العلم والدعوة والأخلاق الحميدة.
انظر كتاب "ظاهرة انتشار الإسلام" محمد فتح الله الزيادي (ص/222-224)
2- أن أكثر المغول الذين انتسبوا إلى الإسلام لم يعرفوه حق معرفته، ولم يقفوا عند حدوده وشرعه، ولم يمنعهم الدين الجديد الذي انتسبوا إليه من اقتحام بلاد المسلمين، وتكرار اعتداءاتهم عليها بعد عصر " جنكيز خان " الطاغية، ولم تختلف سيرتهم كثيرا عن سيرة أسلافهم من المجرمين، مما حدا بأهل العلم إلى الفتوى بكفرهم وعدم صحة إسلامهم، وهي فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية المشهورة، حتى إنه كان يقول:
" إذا رأيتموني من ذلك الجانب – يعني الذي فيه المغول – وعلى رأسي مصحف فاقتلوني "، لما كان يجزم به من كفرهم وظلمهم وعدوانهم. انظر "البداية والنهاية" (14/24)
فكيف لهؤلاء أن يحملوا دعوة التوحيد والمعرفة والسلام إلى العالم، وكيف للشعوب في بلاد آسيا أن تتبعهم على دينهم بعد أن لقوا منهم العذاب والنكال!!
(يمكن الرجوع إلى المصادر الآتية لاستكمال تفاصيل البحث: " وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي للعالم الإسلامي " محمد ماهر حمادة، " المغول في التاريخ من جنكيز خان إلى هولاكو خان " فؤاد الصياد، " تاريخ المغول " عباس إقبال، وغيرها)
والله أعلم.
‰الإسلام سؤال وجواب