هل يأثم من نسي ما حفظه من القرآن بسبب ضعف ذاكرته؟

ƒـ[ما حكم من حفِظ شيئاً من القرآن الكريم، أو الأسماء الحسنى، ثم نسيها، أو نسي بعضاً منها بسبب ذاكرته الضعيفة، هل سيعذبه الله على ذلك؟ .]ـ

^الحمد لله

أولاً:

لا ينبغي للمسلم أن يقول " نسيتُ " فيما ضاع من ذاكرته في حفظه للقرآن، بل " أُنسيتُ " أو " نُسِّيت ".

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بِئْسَمَا لأَحَدِهِمْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا) . رواه البخاري (4744) ومسلم (790) .

وفي لفظ لمسلم: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ) .

وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا) . رواه البخاري (4751) ومسلم (788) .

قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله -:

قوله في آخر الحديث: (بل هو نُسِّي) ، وهذا اللفظ رويناه مشدَّدًا مبنيًّا لما لم يسم فاعله، وقد سمعناه من بعض من لقيناه بالتخفيف، وبه ضُبِط عن أبي بحر، والتشديد لغيره، ولكل منهما وجهٌ صحيح، فعلى التشديد يكون معناه: أنه عوقب بتكثير النسيان عليه؛ لما تمادى في التفريط، وعلى التخفيف يكون معناه: تُرِك غير مُلْتَفَتٍ إليه، ولا مُعْتَنىً به، ولا مرحوم، كما قال الله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) ؛ أي: تركهم في العذاب، أو تركهم من الرحمة.

" المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " (2 / 419) .

ثانياً:

وقد اختلف العلماء في حكم نسيان القرآن ممن كان حفظه، وقد ذهب طائفة من الشافعية إلى أنه من الكبائر! وقال بعضهم إنه من الذنوب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:

فإن نسيان القرآن من الذنوب.

" مجموع الفتاوى " (13 / 423) .

وقال الشيخ زكريا الأنصاري – رحمه الله -:

(ونسيانه كبيرة) , وكذا نسيان شيء منه؛ لخبر (عُرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها) ، وخبر (من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله عز وجل يوم القيامة أجذم) رواهما أبو داود) ا. هـ.

وفي حاشية " الرملي " عليه:

قوله: (ونسيانه كبيرة) موضعه إذا كان نسيانه تهاوناً وتكاسلاً.

" أسنى المطالب " (1 / 64) .

والأظهر أن نسيان القرآن: ليس كبيرة، بل ولا ذنبا، ولكنه مصيبة، أو عقوبة، والغالب أن يكون هذا بسبب إعراضه عن العمل به، وعدم تعاهده، وقد أمِر بكلا الأمرين، فلما لم يستجب للأمر عوقب بما فيه سلب لخيرٍ عظيم، وقد يكون نسيانه له بسبب معاصٍ وذنوب، فيأثم عليها، ويعاقب بسلب القرآن منه، وأما إن كان نسيانه لما حفِظَ بسبب ضعفٍ في ذاكرته: فلا شيء عليه، لكن عليه المداومة على تنشيطها بكثرة القراءة، وبالقيام بما يحفظ؛ فإنه من أعظم السبل للبقاء على ما يحفظ.

1. من قال إن نسيان القرآن مصيبة:

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:

وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفاً قال: " ما مِن أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه؛ لأن الله يقول: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) ، ونسيان القرآن من أعظم المصائب.

" فتح الباري " (9 / 86) .

2. من قال إنه عقوبة:

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:

قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله -:

مَن جمع القرآن: فقد علت رتبته، ومرتبته، وشرف في نفسه، وقومه شرفاً عظيماً، وكيف لا يكون ذلك و " من حفظ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين كتفيه " [قاله عبد الله بن عمرو بن العاص، وانظر " السلسلة الضعيفة " (5118) ] ، وقد صار ممن يقال فيه: " هو مِن أهلِ الله تعالى وخاصته " [رواه ابن ماجه (215) وهو صحيح] ، وإذا كان كذلك: فمِن المناسب تغليظ العقوبة على من أخلَّ بمزيته الدينية، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره، كما قال تعالى: (يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) ؛ لاسيما إذا كان ذلك الذنب مما يحط تلك المزية ويسقطها؛ لترك معاهدة القرآن المؤدي به إلى الرجوع إلى الجهالة.

" المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " (2 / 419) .

وبكل حال: فهي مصيبة أو عقوبة، لكن لا نجزم بالإثم لمجرد النسيان.

قال علماء اللجنة الدائمة:

فلا يليق بالحافظ له أن يغفل عن تلاوته، ولا أن يفرط في تعاهده، بل ينبغي أن يتخذ لنفسه منه ورداً يوميّاً يساعده على ضبطه، ويحول دون نسيانه؛ رجاء الأجر، والاستفادة من أحكامه، عقيدة، وعملاً، ولكن مَن حفظ شيئاً مِن القرآن ثم نسيه عن شغل، أو غفلة: ليس بآثم، وما ورد من الوعيد في نسيان ما قد حفظ: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.

" فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 99) .

والظاهر أن من قال إن نسيان القرآن من الذنوب، أو الكبائر: قد استدل بحديثين وردا في ذلك – كما نقلناه عن زكريا الأنصاري -، لكن كلا الحديثين لا يصحان، فلا يصلح الاستدلال بهما.

1. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا) .

رواه الترمذي (2916) وضعفه، ونقل عن البخاري استغرابه، وأبو داود (461) ، وضعفه الألباني في " ضعيف الترمذي ".

2. عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ امْرِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ) .

رواه أبو داود (1474) وضعفه الألباني في " ضعيف أبي داود ".

والظاهر أن من قال إن النسيان كبيرة، أو أنه ذنب: لم يرِد ما يكون بسبب ضعف الذاكرة، بل ما كان النسيان بسبب التهاون، والكسل، كما صرَّح به الرملي الشافعي.

سئل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله -:

نحن طلاب العلم نحفظ الكثير من الآيات على سبيل الاستشهاد، وفي نهاية العام نكون قد نسينا الكثير منها، فهل ندخل في حكم من يعذبون بسبب نسيان م حفظوه؟ .

فأجاب:

نسيان القرآن له سببان:

الأول: ما تقتضيه الطبيعة.

والثاني: الإعراض عن القرآن، وعدم المبالاة به.

فالأول: لا يأثم به الإنسان، ولا يعاقب عليه، فقد وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى بالناس، ونسي آية، فلما انصرف ذكَّره بها أبيّ بن كعب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كنت ذكرتنيها) ، وسمع رسول الله قارئاً يقرأ، فقال: (يرحم الله فلاناً فقد ذكرني آية كنت أنسيتها) .

وهذا يدل على أن النسيان الذي يكون بمقتضى الطبيعة: ليس فيه لوم على الإنسان.

أما ما سببه الإعراض، وعدم المبالاة: فهذا قد يأثم به، وبعض الناس يكيد له الشيطان، ويوسوس له أن لا يحفظ القرآن لئلا ينساه ويقع في الإثم! والله سبحانه وتعالى يقول: (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) النساء/ 76، فليحفظ الإنسان القرآن؛ لأنه خير، وليؤمل عدم النسيان، والله سبحانه عند ظن عبده به.

" كتاب العلم " (96، 97) .

وما سبق من الجواب هو في " نسيان القرآن "، ولم نجد شيئاً من كلام العلماء في " نسيان أسماء الله الحسنى "، وليسا سواءً.

وانظر أجوبة الأسئلة: (3704) و (83287) و (121246) .

والله أعلم

‰الإسلام سؤال وجواب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015