ƒـ[من المعلوم أن الله يطبع على قلب الكافر فلا يرى الحق , أو يرى الباطل حقا , ولكن هل يمكن أن يطبع الله عز وجل على قلب مسلم , وكيف يكون ذلك , وما دلالاته , وهل لذلك علاج. بارك الله فيكم ونفعنا بكم وبعلمكم.]ـ
^الحمد لله
أولاً:
الطبع على القلوب يكون على قلوب الكفار، وعلى قلوب المسلمين العاصين، فأما الطبع على قلوب الكفار: فهو طبعٌ على القلب كله، وأما الطبع على قلوب المسلمين العاصين: فيكون طبعاً جزئيّاً، بحسب معصيته، وفي كل الأحوال ليس الطبع ابتداء من الرب تعالى، بل هو عقوبة لأولئك المطبوع على قلوبهم، أولئك بما كفروا، والآخرون بما عصوا، كما قال تعالى في حق الكفار: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) النساء/ 155.
ثانياً:
من الطبع الوارد في الشرع في حق عصاة المسلمين:
1. الطبع بسبب كثرة الذنوب والمعاصي على العموم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
رواه الترمذي (3334) وقال: حسن صحيح، وحسَّنه الألباني.
والريْن هو الطبع.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
عن مجاهد في قوله (بل ران على قلوبهم) قال: ثبتت على قلوبهم الخطايا حتى غمرتها.
انتهى
والران، والرين: الغشاوة، وهو كالصدأ على الشيء الصقيل.
... .
عن مجاهد قال: كانوا يرون الرين هو الطبع.
" فتح الباري " (8 / 696) .
وقال ابن القيم - رحمه الله -:
الذنوب إذا تكاثرت: طُبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال بعض السلف في قوله تعالى (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) قال: هو الذنب بعد الذنب، وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب، حتى قال: وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فاذا زادت: غلب الصدأ حتى يصير راناً، ثم يغلب حتى يصير طبْعاً، وقفلاً، وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فاذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة: انتكس، فصار أعلاه أسفله، فحينئذ يتولاه عدوه، ويسوقه حيث أراد.
" الجواب الكافي " (ص 139) .
2. التعرض لفتن الشهوات، والشبهات.
عن حُذَيْفَة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) .
رواه مسلم (144) .
مرباداً: الذي في لون رُبدة، وهي بين السواد والغبرة.
كالكوز مجخياً: كالإناء المائل عن الاستقامة والاعتدال.
قال النووي – رحمه الله -:
قال القاضي رحمه الله – أي: القاضي عياض -: شبَّه القلب الذى لا يعي خيراً: بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه.
وقال " صاحب التحرير " – وهو محمد بن إسماعيل الأصبهاني -: معنى الحديث: أن الرجل إذا تبع هواه، وارتكب المعاصي: دخل قلبَه بكل معصية يتعاطاها: ظلمةٌ، وإذا صار كذلك: افتُتن، وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز، فإذا انكب: انصب ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك.
" شرح مسلم " (2 / 173) .
وقال ابن القيم – رحمه الله -:
والفتن التي تُعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات، وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد.
" إغاثة اللهفان " (1 / 12) .
3. الطبع بسبب التخلف عن صلاة الجمعة.
أ. عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ) .
رواه الترمذي (500) وأبو داود (1052) والنسائي (1369) وابن ماجه (1126) .
قال ابن الجوزي – رحمه الله -:
أَصْلُ الطَّبْعِ: الوَسَخُ، والدَّرَنُ، ويحتمل أَنْ يُراد به: الخَتْمُ عَلَى القَلْبِ، حَتَّى لاَ يَفْهَمَ الصَّوابَ.
" غريب الحديث " (2 / 26، 27) .
والمعني الثاني هو الأظهر عند عامة الشرَّاح.
قال السيوطي:
قال الباجي: معنى الطبع على القلب: أن يُجعل بمنزلة المختوم عليه، لا يصل إليه شيء من الخير.
" تنوير الحوالك شرح موطأ مالك " (1 / 102) .
وقال المباركفوري – رحمه الله -:
قوله (تهاوناً بها) قال العراقي: المراد بالتهاون: الترك عن غير عذر، والمراد بالطبع: أنه يصير قلبُه قلبَ منافق. انتهى.
" تحفة الأحوذي " (3 / 11) .
ب. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ) .
رواه مسلم (865) .
قال الصنعاني – رحمه الله -:
(لينتهين أقوام عن وَدْعهم) بفتح الواو وسكون الدال المهملة وكسر العين المهملة أي: تركهم الجمعات.
(أو ليختمن الله على قلوبهم) الختم: الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه؛ كتماً له، وتغطية؛ لئلا يتوصل إليه، ولا يطلع عليه، شبهت القلوب بسبب إعراضهم عن الحق واستكبارهم عن قبوله وعدم نفوذ الحق إليها: بالأشياء التي استوثق عليها بالختم، فلا ينفذ إلى باطنها شيء، وهذه عقوبة على عدم الامتثال لأمر الله، وعدم إتيان الجمعة من باب تيسير العسرى.
(ثم ليكونن من الغافلين) بعد ختمه تعالى على قلوبهم، فيغفلون عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال، وعن ترك ما يضرهم منها.
وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها.
وفيه إخبار بأن تركها من أعظم أسباب الخذلان بالكلية.
" سبل السلام " (2 / 45) .
ومعنى " من باب تيسير العسرى ": من بخل بطاعة ربه، وتأخر عنها: صار ذلك الكسل والتأخر عن الطاعة عادة ملازمة له، يسهل عليه إتيانها، ويشق عليه تركها، وهي طريق موصلة للعسرى. قال ابن كثير رحمه الله:
" {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي: لطريق الشر، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 11] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عز وجل يُجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشر بالخذلان. وكل ذلك بقدر مُقدّر. " انتهى. "تفسير ابن كثير" (8/417) .
والخلاصة:
أن الناس أربعة أصناف: كافر، ومنافق، ومؤمن، ومسلم عاصٍ، ولكل واحدٍ من أولئك قلبه الخاص به، ومن طبع عليه من الكفار والمنافقين: فهو طبع كلي، لا يدخل إليهم نور الإسلام، ولا يخرج منهم ظلمة الكفر، وأما الطبع على قلب المسلم العاصي: فهو بحسب ما ارتكب من ذنوب يكون حاله، وهو دائر بين قلبين، وقد يصل حاله لقلب المنافق - أو الكافر -، وذلك بحسب زيادة المعاصي تأثير المعاصي في قلبه، وتكاثرها عليه.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
وقد قسَّم الصحابة رضي الله تعالى عنهم القلوبَ إلى أربعة، كما صح عن حذيفة بن اليمان: " القلوب أربعة: قلب أجرد، فيه سراج يُزهِر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق، عَرفَ ثم أنكر، وأبصر ثم عمى، وقلبٌ تُمِدُّه مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما ".
فقوله: " قلب أجرد " أي: متجرد مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلِم مما سوى الحق، و " فيه سراج يزهر " وهو مصباح الإيمان، فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل، وشهوات الغي، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه، واستنارته بنور العلم، والإيمان.
وأشار بالقلب الأغلف: إلى قلب الكافر؛ لأنه داخل في غلافه، وغشائه، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان، كما قال تعالى حاكياً عن اليهود: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) البقرة/ 88، وهو جمع أغلف، وهو الداخل في غلافه، كقُلف وأقلف، وهذه الغشاوة هي الأكِنَّة التي ضربها الله على قلوبهم عقوبة لهم على رد الحق، والتكبر عن قبوله، فهي أكنة على القلوب، ووقْر في الأسماع، وعمًى في الأبصار، وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً. وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً) الإسراء/ 45، 46، فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة ولى أصحابها على أدبارهم نفورا
وأشار بالقلب المنكوس، وهو المكبوب: إلى قلب المنافق، كما قال تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) النساء/ 88، أي: نكسهم، وردهم في الباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم، وأعمالهم الباطلة، وهذا شر القلوب، وأخبثها؛ فإنه يعتقد الباطل حقّاً، ويوالي أصحابه، والحقَّ باطلاً، ويعادي أهله، فالله المستعان.
وأشار بالقلب الذي له مادتان: إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان، ولم يزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله، بل فيه مادة منه، ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم للغالب، وإليه يرجع.
" إغاثة اللهفان " (1 / 12، 13) .
ثالثا:
ليعلم أن معرفة أسباب النجاة من ذلك البلاء، وفك قفل القلوب، وفتحها لأسباب الهدى: ليعلم أن ذلك هو أهم ما ينبغي للعبد أن يصرف همته إليه، فإن ذلك هو نجاته في الدنيا والآخرة.
وقد مر معنا في حديث أبي هريرة: (فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ) ؛ فهذا أول ما يعمل العبد إذا أراد لنفسه النجاة: أن يعلم الذنب الذي أتي من قبله، والباب الذي دخل عليه البلاء منه، ثم يطهر نفسه من رجس ذلك الذنب، ويغلق عن نفسه باب ذلك البلاء.
وفي الحديث الآخر، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا: نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) رواه مسلم (144) .
فقد بين أن صمود القلب أمام ما يطرقه من فتن الشبهات والشهوات، وثباته في مواقف الفتن: هو من أعظم أسباب هدايته، وحفظ صحته، وأن تعرضه للفتن، واستجابته لها: هو من أعظم أسباب ضلاله وفساد حاله.
وفوق ذلك كله، وقبل ذلك كله، وأيضا: بعد ذلك كله: أن يلازم الافتقار إلى من بيده مقاليد كل شيء: أن يزيل عنه ما أصابه، وأن يفتح قلبه للهدى والنور.
قال ابن القيم رحمه الله:
" ومما ينبغي أن يعلم: أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان؛ بأن يفَك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفلَ، ذلك الختمَ والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلاله، ويعلمه بعد جهله، ويرشده بعد غيه، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر: لم يمتنع أن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان. وقرا قارئ عند عمر بن الخطاب: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) وعنده شاب فقال: (اللهم عليها أقفالها، ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك) ، فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا. وكان عمر يقول في دعائه: (اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت) ...
والمقصود: أنه مع الطبع والختم والقفل، لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل؛ يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء.
وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه، وإن كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له؛ كما أن شرب الدواء مقدور له، وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور، فإذا استحكم به المرض وصار صفة لازمة له، لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء، وإن كان غير مقدور له، ولكن لما ألف العلة وساكنها، ولم يحب زوالها ولا آثر ضدها عليها، مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت: فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية ...
فإذا عرف الهدى فلم يحبه ولم يرض به، وآثر عليه الضلال مع تكرار تعريفه منفعة هذا وخيره، ومضرة هذا وشره: فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية.
فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه، وأنه إن لم يهده الله فهو ضال، وسأل الله أن يُقبِل بقلبه، وأن يقيه شر نفسه: وفَّقَه وهداه، بل لو علم الله منه كراهيةً لما هو عليه من الضلال، وأنه مرض قاتل، إن لم يشفه منه أهلكه: لكانت كراهته وبغضه إياه، مع كونه مبتلي به، من أسباب الشفاء والهداية؛ ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال: محبته له ورضاه به، وكراهته الهدى والحق.
فلو أن المطبوع على قلبه، المختوم عليه، كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه، وفعل مقدوره: لكان هداه أقرب شيء إليه، ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك، وسؤال الرب فكه وفتح قلبه ". انتهى.
" شفاء العليل"، لابن القيم (192-193) .
والله أعلم
‰الإسلام سؤال وجواب