فِي دَرَجَاتِ الْجِنَانِ، وَمِنْهَا، وَهُوَ أَشْرَفُ الْبَوَاعِثِ، الْحُبُّ وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ فِي قِيَامِهِ لَا يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ إِلَّا وَهُوَ مُنَاجٍ بِهِ رَبَّهُ وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مَعَ مُشَاهَدَةِ مَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْخَطَرَاتِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خِطَابٌ مَعَهُ، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّ لَا مَحَالَةَ الْخَلْوَةَ بِهِ وَتَلَذَّذَ بِالْمُنَاجَاةِ، فَتَحْمِلُهُ لَذَّةُ الْمُنَاجَاةِ بِالْحَبِيبِ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ.
لَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَبْعَدَ هَذِهِ اللَّذَّةُ إِذْ يَشْهَدُ لَهَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ ; فَأَمَّا الْعَقْلُ فَلْيَعْتَبِرْ حَالَ الْمُحِبِّ لِشَخْصٍ بِسَبَبِ جَمَالِهِ أَوْ لِمَلِكٍ بِسَبَبِ إِنْعَامِهِ وَأَمْوَالِهِ أَنَّهُ كَيْفَ يَتَلَذَّذُ بِهِ فِي الْخَلْوَةِ وَمُنَاجَاتِهِ حَتَّى لَا يَأْتِيَهُ النَّوْمُ طُولَ لَيْلِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ الْجَمِيلَ يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَمِيلُ الْمَحْبُوبُ وَرَاءَ سِتْرٍ أَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَكَانَ الْمُحِبُّ يَتَلَذَّذُ بِمُجَاوَرَتِهِ بِمَسْمَعٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مَعْلُومًا عِنْدَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ يَنْتَظِرُ جَوَابَهُ فَيَتَلَذَّذُ بِسَمَاعِ جَوَابِهِ وَلَيْسَ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ وَيَسْكُتُ عَنْهُ فَقَدْ بَقِيَتْ أَيْضًا لَذَّةٌ فِي عَرْضِ أَحْوَالِهِ عَلَيْهِ وَرَفْعِ سَرِيرَتِهِ إِلَيْهِ، كَيْفَ وَالْمُوقِنُ يَسْمَعُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ مَا يَرِدُ عَلَى خَاطِرِهِ فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاتِهِ فَيَتَلَذَّذُ بِهِ، وَكَذَا الَّذِي يَخْلُو بِالْمَلِكِ وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ حَاجَاتِهِ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ يَتَلَذَّذُ بِهِ فِي رَجَاءِ إِنْعَامِهِ، وَالرَّجَاءُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَصْدَقُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ أَبْقَى وَأَنْفَعُ مِمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَكَيْفَ لَا يَتَلَذَّذُ بِعَرْضِ الْحَاجَاتِ عَلَيْهِ فِي الْخَلَوَاتِ.
وَأَمَّا النَّقْلُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَحْوَالُ قُوَّامِ اللَّيْلِ فِي تَلَذُّذِهِمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَاسْتِقْصَارِهِمْ لَهُ كَمَا يَسْتَقْصِرُ الْمُحِبُّ لَيْلَةَ وِصَالِ الْحَبِيبِ، حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: كَيْفَ أَنْتَ وَاللَّيْلُ؟ قَالَ مَا رَاعَيْتُهُ قَطُّ يُرِينِي وَجْهَهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَمَا تَأَمَّلْتُهُ بَعْدُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ بَكَّارٍ: «مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَحْزَنَنِي شَيْءٌ سِوَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» .
وَقَالَ «الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ» : «إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَرِحْتُ بِالظَّلَامِ لِخَلْوَتِي بِرَبِّي وَإِذَا طَلَعَتْ حَزِنْتُ لِدُخُولِ النَّاسِ عَلَيَّ» .
وَقَالَ أبو سليمان: «أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ، وَلَوْلَا اللَّيْلُ مَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا» .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَقْتٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا يَجِدُهُ أَهْلُ التَّمَلُّقِ فِي قُلُوبِهِمْ بِاللَّيْلِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ» .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «لَذَّةُ الْمُنَاجَاةِ لَيْسَتْ مِنَ الدُّنْيَا إِنَّمَا هِيَ مِنَ الْجَنَّةِ أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ لَا يَجِدُهَا سِوَاهُمْ» ، وَقَالَ