الثَّانِي: التَّعْظِيمُ لِلْمُتَكَلِّمِ، فَالْقَارِئُ عِنْدَ الْبِدَايَةِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ فِي قَلْبِهِ عَظَمَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَلَنْ تَحْضُرَهُ عَظَمَةُ الْمُتَكَلِّمِ مَا لَمْ يَتَفَكَّرْ فِي صِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَإِذَا حَضَرَ بِبَالِهِ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْخَالِقَ لِجَمِيعِهَا وَالْقَادِرَ عَلَيْهَا وَالرَّازِقَ لَهَا وَاحِدٌ وَأَنَّ الْكُلَّ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَبَيْنَ نِقْمَتِهِ وَسَطْوَتِهِ، إِنْ أَنْعَمَ فَبِفَضْلِهِ، وَإِنْ عَاقَبَ فَبِعَدْلِهِ، فَبِالتَّفَكُّرِ فِي أَمْثَالِ هَذَا يَحْضُرُ تَعْظِيمُ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ تَعْظِيمُ الْكَلَامِ.
الثَّالِثُ: حُضُورُ الْقَلْبِ وَتَرْكُ حَدِيثِ النِّفْسِ وَالتَّجَرُّدُ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ وَصَرْفُ الْهَمِّ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ، كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا قَرَأَ سُورَةً لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ فِيهَا أَعَادَهَا ثَانِيَةً، وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَتَوَلَّدُ عَمَّا قَبْلَهَا مِنَ التَّعْظِيمِ، فَإِنَّ الْمُعَظِّمَ لِلْكَلَامِ الَّذِي يَتْلُوهُ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِ وَيَسْتَأْنِسُ لَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَسْتَأْنِسُ بِهِ الْقَلْبُ إِنْ كَانَ التَّالِي أَهْلًا لَهُ فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْأُنْسَ بِالْفِكْرِ فِي غَيْرِهِ.
الرَّابِعُ التَّدَبُّرُ: وَهُوَ وَرَاءَ حُضُورِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَفَكَّرُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَدَبَّرُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقِرَاءَةِ التَّدَبُّرُ، وَلِذَلِكَ سُنَّ فِيهِ التَّرْتِيلُ لِأَنَّ التَّرْتِيلَ فِي الظَّاهِرِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّدَبُّرِ بِالْبَاطِنِ، قَالَ " علي " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا وَلَا فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا "، وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّدَبُّرِ إِلَّا بِتَرْدِيدٍ فَلْيُرَدِّدْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلْفَ إِمَامٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا.
الْخَامِسُ: التَّفَهُّمُ وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْضِحَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ مَا يَلِيقُ بِهَا، إِذِ الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذِكْرِ أَفْعَالِهِ، وَذِكْرِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَيْفَ أُهْلِكُوا، وَذِكْرِ أَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ، وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَمَّا صِفَاتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَقَوْلِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشُّورَى: 11] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) [الْحَشْرِ: 23] فَلْيَتَأَمَّلْ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِيَنْكَشِفَ لَهُ أَسْرَارُهَا.
وَأَمَّا أَفْعَالُهُ تَعَالَى فَكَذِكْرِهِ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا، فَلْيَفْهَمِ التَّالِي مِنْهَا صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَلَالُهُ إِذِ الْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ فَتَدُلُّ عَظَمَتُهُ عَلَى عَظَمَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ فِي الْفِعْلِ الْفَاعِلَ دُونَ الْفِعْلِ، فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ رَآهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِهَذَا يَنْبَغِي إِذَا قَرَأَ التَّالِي قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) [الْوَاقِعَةِ: 63] (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) [الْوَاقِعَةِ: 58] (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) [الْوَاقِعَةِ: 68] (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الْوَاقِعَةِ: 71] فَلَّا يَقْصُرُ نَظَرُهُ عَلَى الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَرْثِ وَالْمَنِيِّ بَلْ يَتَأَمَّلُ فِي الْمَنِيِّ وَهُوَ نُطْفَةٌ مُتَشَابِهَةُ الْأَجْزَاءِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي كَيْفِيَّةِ انْقِسَامِهَا إِلَى اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ، وَكَيْفِيَّةِ تَشَكُّلِ أَعْضَائِهَا بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ: مِنَ الرَّأْسِ، وَالْيَدِ، وَالرِّجْلِ، وَالْكَبِدِ، وَالْقَلْبِ، وَغَيْرِهَا، ثُمَّ إِلَى مَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ: مِنَ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْعَقْلِ، وَغَيْرِهَا، ثُمَّ إِلَى مَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ: مِنَ الْغَضَبِ، وَالشَّهْوَةِ، وَالْكِبْرِ، وَالْجَهْلِ، وَالتَّكْذِيبِ، وَالْمُجَادَلَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)