فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ إِنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ أَذًى احْتَمَلَهُ وَخُسْرَانٍ أَصَابَهُ ثَوَابٌ، فَلَا يَضِيعُ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَيُقَالُ: «مِنْ عَلَامَةِ قَبُولِ الْحَجِّ تَرْكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنْ يَتَبَدَّلَ بِإِخْوَانِهِ الْبَطَّالِينَ إِخْوَانًا صَالِحِينَ، وَبِمَجَالِسِ اللَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ مَجَالِسَ الذِّكْرِ وَالْيَقَظَةِ» .
طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ بِأَعْمَالِ الْحَجِّ الْبَاطِنَةِ وَالتَّذَكُّرُ لِأَسْرَارِهَا وَمَعَانِيهَا:
فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ تَذْكِرَةٌ لِلْمُتَذَكِّرِ وَعِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ إِذَا انْفَتَحَ بَابُهَا انْكَشَفَ لِكُلِّ خَارِجٍ مِنْ أَسْرَارِهَا مَا يَقْتَضِيهِ صَفَاءُ قَلْبِهِ وَغَزَارَةُ فَهْمِهِ، وَقَدْ شَرَّفَ اللَّهُ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ، وَنَصَبَهُ مَقْصِدًا لِعِبَادِهِ، وَجَعَلَ مَا حَوَالَيْهِ حَرَمًا لِبَيْتِهِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ، وَأَكَّدَ حُرْمَةَ الْمَوْضِعِ بِتَحْرِيمِ صَيْدِهِ وَشَجَرِهِ، وَوَضَعَهُ عَلَى مِثَالِ حَضْرَةِ الْمُلُوكِ يَقْصِدُهُ الزُّوَّارُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وَمِنْ كُلِّ أَوْبٍ سَحِيقٍ شُعْثًا غُبْرًا مُتَوَاضِعِينَ لِرَبِّ الْبَيْتِ خُضُوعًا لِجَلَالِهِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ أَنْ يَحْوِيَهُ بَيْتٌ أَوْ يَكْتَنِفَهُ بَلَدٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي رِقِّهِمْ وَعُبُودِيَّتِهِمْ وَأَتَمَّ فِي إِذْعَانِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ.
وَفِي الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ إِجَابَةُ نِدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي دُخُولِ مَكَّةَ تَذَكُّرُ الِانْتِهَاءِ إِلَى حَرَمِ اللَّهِ، فَلْيَخْشَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِلْقُرْبِ وَلْيَرْجُ الرَّحْمَةَ.
وَفِي مُشَاهَدَةِ الْبَيْتِ إِحْضَارُ عَظَمَةِ الْبَيْتِ فِي الْقَلْبِ وَتَقْدِيرُ مُشَاهَدَتِهِ لِرَبِّ الْبَيْتِ لِشِدَّةِ تَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ، وَفِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ تَشَبُّهٌ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الْحَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ الطَّائِفِينَ حَوْلَهُ، وَمَا الْقَصْدُ طَوَافُ الْجِسْمِ بَلْ طَوَافُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الرَّبِّ، وَفِي التَّعَلُّقِ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَالِالْتِصَاقِ بِالْمُلْتَزَمِ طَلَبُ الْقُرْبِ حُبًّا وَشَوْقًا لِلْبَيْتِ وَلِرَبِّ الْبَيْتِ وَتَبَرُّكًا بِالْمُمَارَسَةِ وَالْإِلْحَاحِ فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَسُؤَالِ الْأَمَانِ كَالْمُذْنِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِثِيَابِ مَنْ أَذْنَبَ إِلَيْهِ الْمُتَضَرِّعِ إِلَيْهِ فِي عَفْوِهِ عَنْهُ الْمُظْهِرِ لَهُ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يُفَارِقُ ذَيْلَهُ إِلَّا بِالْعَفْوِ عَنْهُ.
وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مُضَاهَاةُ تَرَدُّدِ الْعَبْدِ بِفَنَاءِ الْمُلْكِ جَائِيًا وَذَاهِبًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِظْهَارًا لِلْخُلُوصِ فِي الْخِدْمَةِ وَرَجَاءً لِلْمُلَاحَظَةِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ كَالَّذِي دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ وَخَرَجَ وَهُوَ لَا يَدْرِي مَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْمَلِكُ فِي حَقِّهِ مِنْ قَبُولٍ أَوْ رَدٍّ، فَلَا يَزَالُ يَتَرَدَّدُ عَلَى فِنَاءِ الدَّارِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى يَرْجُو أَنْ يُرْحَمَ فِي الثَّانِيَةِ إِنْ لَمْ يُرْحَمْ فِي الْأُولَى.
وَفِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرُؤْيَةِ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ وَارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ تَذَكُّرُ اجْتِمَاعِ الْأُمَمِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَتَحَيُّرِهِمْ فِي ذَلِكَ الصَّعِيدِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، وَفِي تَذَكُّرِ ذَلِكَ إِلْزَامُ الْقَلْبِ الضَّرَاعَةَ وَالِابْتِهَالَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجَاءُ الْحَشْرِ فِي زُمْرَةِ الْفَائِزِينَ الْمَرْحُومِينَ وَتَحْقِيقُ الرَّجَاءِ بِالْإِجَابَةِ فَالْمَوْقِفُ شَرِيفٌ، وَالرَّحْمَةُ إِنَّمَا تَصِلُ مِنْ حَضْرَةِ الْجَلَالِ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ بِوَاسِطَةِ الْقُلُوبِ النَّقِيَّةِ، وَلَا يَنْفَكُّ الْمَوْقِفُ عَنْ طَبَقَاتٍ مِنَ الصَّالِحِينَ وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هِمَمُهُمْ وَتَجَرَّدَتْ لِلضَّرَاعَةِ وَالِابْتِهَالِ قُلُوبُهُمْ وَارْتَفَعَتْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَيْدِيهِمْ وَامْتَدَّتْ إِلَيْهِ أَعْنَاقُهُمْ وَشَخَصَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ أَبْصَارُهُمْ مُجْتَمِعِينَ بِهِمَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى طَلَبِ الرَّحْمَةِ فَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّهُ يُخَيِّبُ أَمَلَهُمْ وَيُضَيِّعُ سَعْيَهُمْ وَيَدَّخِرُ عَنْهُمْ رَحْمَةً تَغْمُرُهُمْ.
وَفِي رَمْيِ الْجِمَارِ انْقِيَادٌ لِلْأَمْرِ إِظْهَارًا لِلرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَقَصْدُ رَمْيِ وَجْهِ الشَّيْطَانِ وَقَصْمُ ظَهْرِهِ.
وَفِي زِيَارَةِ الْمَدِينَةِ وَمُشَاهَدَتِهَا تَذَكُّرُ أَنَّهَا الْبَلْدَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ إِلَيْهَا هِجْرَتَهُ، وَأَنَّهَا دَارُهُ الَّتِي شَرَعَ