مَحْظُورٍ يَلْزَمُهُ تَرْكُهُ، أَوْ نَدْبٍ حَثَّ عَلَيْهِ لِيُسَارِعَ بِهِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُسَابِقَ بِهِ عِبَادَ اللَّهِ، أَوْ مُبَاحٍ فِيهِ صَلَاحُ جِسْمِهِ وَقَلْبِهِ وَفِيهِ عَوْنٌ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ حُدُودٌ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطَّلَاقِ: 1] وَمَنْ كَانَ فَارِغًا مِنَ الْفَرَائِضِ وَقَدَرَ عَلَى الْفَضَائِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ لِيَشْتَغِلَ بِهَا، فَإِنَّ مَنْ فَاتَهُ مَزِيدُ رِبْحٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَرْكِهِ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَالْأَرْبَاحُ تُنَالُ بِمَزَايَا الْفَضَائِلِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الْحَشْرِ: 18] وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَاسِبَةِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَعْمَالِ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النُّورِ: 31] وَالتَّوْبَةُ نَظَرٌ فِي الْفِعْلِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الْأَعْرَافِ: 201] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» وَقَالَ «عمر» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا» . وَقَالَ «مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ» : «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ لِنَفْسِهِ: أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا أَلَسْتِ صَاحِبَةَ كَذَا؟ ثُمَّ ذَمَّهَا ثُمَّ خَطَمَهَا ثُمَّ أَلْزَمَهَا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ لَهُ قَائِدًا» . إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْءِ فِي آخِرِ النَّهَارِ سَاعَةٌ يُطَالِبُ فِيهَا النَّفْسَ وَيُحَاسِبُهَا عَلَى جَمِيعِ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا كَمَا يَفْعَلُ التُّجَّارُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَكَيْفَ لَا يُحَاسِبُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خَطَرُ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ أَبَدَ الْآبَادِ؟ مَا هَذِهِ الْمُسَاهَلَةُ إِلَّا عَنِ الْغَفْلَةِ وَقِلَّةِ التَّوْفِيقِ. وَمَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ مَعَ الشَّرِيكِ أَنْ يَنْظُرَ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَفِي الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الزِّيَادَةُ مِنَ النُّقْصَانِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فَضْلٍ حَاصِلٍ اسْتَوْفَاهُ وَشَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خُسْرَانٍ طَالَبَهُ بِضَمَانِهِ وَكُلَّفَهُ تَدَارُكَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَكَذَلِكَ رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ فِي دِينِهِ الْفَرَائِضُ وَرِبْحُهُ النَّوَافِلُ وَالْفَضَائِلُ، وَخُسْرَانُهُ الْمَعَاصِي، وَمَوْسِمُ هَذِهِ التِّجَارَةِ جُمْلَةُ النَّهَارِ، وَمُعَامَلَةُ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ فَلْيُحَاسِبْهَا عَلَى الْفَرَائِضِ أَوَّلًا، فَإِنْ أَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ وَرَغَّبَهَا فِي مِثْلِهَا، وَإِنْ فَوَّتَهَا مِنْ أَصْلِهَا طَالَبَهَا بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ أَدَّاهَا نَاقِصَةً كَلَّفَهَا الْجُبْرَانَ بِالنَّوَافِلِ، وَإِنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً اشْتَغَلَ بِعُقُوبَتِهَا وَمُعَاتَبَتِهَا لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا مَا يَتَدَارَكُ بِهِ مَا فَرَطَ كَمَا يَصْنَعُ التَّاجِرُ بِشَرِيكِهِ، وَلْيَتَكَفَّلْ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحِسَابِ مَا سَيَتَوَلَّاهُ غَيْرُهُ فِي صَعِيدِ الْقِيَامَةِ.
اعْلَمْ أَنَّ أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ، وَقَدْ خُلِقَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ مَيَّالَةً إِلَى الشَّرِّ فَرَّارَةً مِنَ الْخَيْرِ، وَأُمِرْتَ بِتَزْكِيَتِهَا وَتَقْوِيمِهَا وَقَوْدِهَا بِسَلَاسِلِ الْقَهْرِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهَا وَخَالِقِهَا، وَمَنْعِهَا عَنْ شَهْوَتِهَا وَفِطَامِهَا عَنْ لَذَّاتِهَا، فَإِنْ أَهْمَلْتَهَا جَمَحَتْ وَشَرَدَتْ وَلَمْ تَظْفَرْ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَازَمْتَهَا بِالتَّوْبِيخِ وَالْمُعَاتَبَةِ وَالْعَدْلِ وَالْمَلَامَةِ رَجَوْتَ أَنْ تَصِيرَ النَّفْسَ الْمُطْمَئِنَّةَ الْمَدْعُوَّةَ إِلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي زُمْرَةِ عِبَادِ اللَّهِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَلَا تَغْفُلَنَّ سَاعَةً عَنْ تَذْكِيرِهَا وَمُعَاتَبَتِهَا، قَالَ اللَّهُ